أما قوله تعالى : ( إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تلك الأقلام وجوها :
الأول : المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى ، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين .
والثاني : أنهم لما ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم ، وهذا قول الربيع .
والثالث : قال أبو مسلم : : مما كانت الأمم تفعله من معنى يلقون أقلامهم فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وقد قال الله تعالى : ( المساهمة عند التنازع فساهم فكان من المدحضين ) [ الصافات : 141 ] وهو شبيه [ ص: 41 ] بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور ، وإنما سميت هذه السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى ، وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلما .
قال القاضي : وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحا نظرا إلى أصل الاشتقاق ، إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به ، فوجب حمل لفظ القلم عليه .
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب ، وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء ، إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له ، ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا -عليه السلام - ، فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم .
المسألة الثالثة : اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة ، فقال بعضهم : إن عمران أباها كان رئيسا لهم ومقدما عليهم ، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها ، وقال بعضهم : إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى ، ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها ، وقال آخرون : بل لأن في الكتب الإلهية كان بيان أمرها وأمر عيسى - عليه السلام - حاصلا فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا .
المسألة الرابعة : اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا ؟ فمنهم من قال : كانوا هم خدمة البيت ، ومنهم من قال : بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي ، ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق .
أما قوله : ( أيهم يكفل مريم ) ففيه حذف والتقدير : يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوما .
أما قوله : ( وما كنت لديهم إذ يختصمون ) فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع ، ويحتمل أن يكون اختصاما آخر حصل بعد الإقراع ، وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها ، والقيام بإصلاح مهماتها ، وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت : ( فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) [ آل عمران : 35 ] وقالت : ( إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) [ آل عمران : 36 ] .