( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )
قوله تعالى : ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )
اعلم أنه - عليه السلام - لما بين بهذه المعجزات الباهرة كونه رسولا من عند الله تعالى ، بين بعد ذلك أنه بماذا أرسل وهو أمران : أحدهما : قوله : ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) .
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في قوله : ( ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية ) أن تقديره وأبعثه رسولا إلى بني إسرائيل قائلا : ( أني قد جئتكم بآية ) فقوله : ( ومصدقا ) معطوف عليه والتقدير : وأبعثه رسولا إلى بني إسرائيل قائلا : " أني قد جئتكم بآية " ، وإني بعثت ( مصدقا لما بين يدي من التوراة ) وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها .
المسألة الثانية : أنه ، لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة ، فكل من حصل له المعجز ، وجب الاعتراف بنبوته ، فلهذا قلنا : بأن يجب على كل نبي أن يكون مصدقا لجميع الأنبياء عليهم السلام عيسى - عليه السلام - يجب أن يكون مصدقا لموسى بالتوراة ، ولعل عيسى - عليه السلام - إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين . من جملة الأغراض في بعثة
وأما المقصود الثاني : من بعثة عيسى - عليه السلام - قوله : ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) .
وفيه سؤال : وهو أنه يقال : هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها ؛ لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعض الذي كان محرما عليه في التوراة ، وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة ، وهذا يناقض قوله : ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ) .
والجواب : إنه لا تناقض بين الكلام ، وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب ، وإذا لم يكن الثاني مذكورا في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرما فيها [ ص: 53 ] مناقضا لكونه مصدقا بالتوراة ، وأيضا إذا كانت البشارة بعيسى - عليه السلام - موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى - عليه السلام - وشرعه مناقضا للتوراة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : إنه - عليه السلام - ما غير شيئا من أحكام التوراة ، قال : إن وهب بن منبه عيسى - عليه السلام - كان على شريعة موسى - عليه السلام - كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس ، ثم إنه فسر قوله : ( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) بأمرين :
أحدهما : أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى ، فجاء عيسى - عليه السلام - ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى - عليه السلام - .
والثاني : أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال الله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] ثم بقي ذلك التحريم مستمرا على اليهود فجاء عيسى - عليه السلام - ورفع تلك التشديدات عنهم ، وقال آخرون : إن عيسى - عليه السلام - رفع كثيرا من أحكام التوراة ، ولم يكن ذلك قادحا في كونه مصدقا بالتوراة على ما بيناه ، ورفع السبت ووضع الأحد قائما مقامه وكان محقا في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق .
ثم قال : ( وجئتكم بآية من ربكم ) وإنما أعاده ؛ لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر ، فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعا في قلوبهم ومؤثرا في طباعهم ، ثم خوفهم فقال : ( فاتقوا الله وأطيعون ) لأن فبين أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي ، ثم إنه ختم كلامه بقوله : ( طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى إن الله ربي وربكم ) ومقصوده لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون : إنه إله وابن إله ؛ لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية النصارى عليه ، ثم قال : ( فاعبدوه ) والمعنى : أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه ، ثم أكد ذلك بقوله : ( هذا صراط مستقيم ) .