قوله تعالى : ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون )
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعا واحدا من أنواع تلبيساتهم ، وهو المذكور في هذه الآية وهاهنا مسائل :
المسألة الأولى : قول بعضهم لبعض ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ) ويحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل وأن يكون المراد بعض ما أنزل .
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه :
الأول : أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفة المسلمين في صحة الإسلام ، وهو أن يظهروا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الشرائع في بعض الأوقات ، ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه ، فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب ، قالوا : هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد ، وإلا لما آمنوا به في أول الأمر ، وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب ، وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الوافي أنه كذاب ، فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته ، وقيل : تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار تصديق ما ينزل على يهود خيبر على هذا الطريق .
وقوله ( لعلهم يرجعون ) معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه .
الوجه الثاني : يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض : نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ، ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب ، فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم ، وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان :
الأول : أنه تعالى لما قال : ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ) [ النساء : 137 ] أتبعه بقوله ( بشر المنافقين ) [ النساء : 138 ] ، وهو بمنزلة قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) [ البقرة : 14 ] .
الثاني : أنه تعالى أتبع هذه الآية بقوله : ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) ، فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه ، فكان قولهم ( آمنوا وجه النهار ) أمر بالنفاق .
الوجه الثالث : قال الأصم : قال بعضهم لبعض : إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم ؛ لأن كثيرا مما جاء به حق ، ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم .
[ ص: 84 ] الاحتمال الثاني : أن يكون قوله ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ) بعض ما أنزل الله ، والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين :
الأول : قال : وجه النهار أوله ، وهو صلاة الصبح ، واكفروا آخره : يعني صلاة الظهر ، وتقريره أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى ابن عباس بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم ، فلما حوله الله إلى الكعبة وكان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره : ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ) يعني آمنوا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الصبح فهي الحق ، واكفروا بالقبلة التي صلى إليها صلاة الظهر ، وهي آخر النهار ، وهي الكفر .
الثاني : أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم ، فقال بعضهم لبعض : صلوا إلى الكعبة في أول النهار ، ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب العلم ، فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها ، فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة .
المسألة الثانية : الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه :
الأول : أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم ، وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب ، فيكون معجزا .
الثاني : أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف .
الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس .
المسألة الثالثة : وجه النهار هو أوله ، والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء ؛ لأنه أول ما يواجه منه ، كما يقال لأول الثوب وجه الثوب ، روى ثعلب عن : أتيته بوجه نهار وصدر نهار ، وشباب نهار ، أي أول النهار ، وأنشد ابن الأعرابي الربيع بن زياد فقال :
من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار