قوله تعالى : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين )
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين :
الأول : أنه تعالى حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ما لم يؤت أحد غيرهم مثله ، ثم إنه تعالى بين أن ، وهم مصرون عليها ، فدل هذا على كذبهم . الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان
والثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا : ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس ، وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير .
وهاهنا مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على انقسامهم إلى قسمين : بعضهم أهل الأمانة ، وبعضهم أهل الخيانة وفيه أقوال :
الأول : أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا ، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أن يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) [ آل عمران : 113 ] مع قوله : ( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) [ آل عمران : 110 ] .
الثاني : أن أهل الأمانة هم النصارى ، وأهل الخيانة هم اليهود ، والدليل عليه ما ذكرنا أن اليهود أنه : يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان . مذهب
الثالث : قال : أودع رجل ابن عباس ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه ، [ ص: 89 ] وأودع آخر عبد الله بن سلام فنحاص بن عازوراء دينارا فخانه فنزلت الآية .
المسألة الثانية : يقال : أمنته بكذا وعلى كذا ، كما يقال : مررت به وعليه ، فمعنى الباء إلصاق الأمانة ، ومعنى : على استعلاء الأمانة ، فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به لقربه منه ، واتصاله بحفظه وحياطته ، وأيضا صار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة والمستولي عليها ، فلهذا حسن التعبير عن هذا المعنى بكلتا العبارتين ، وقيل : إن معنى قولك : أمنتك بدينار أي : وثقت بك فيه ، وقولك : أمنتك عليه ، أي جعلتك أمينا عليه وحافظا له .
المسألة الثالثة : المراد من ذكر القنطار والدينار هاهنا العدد الكثير والعدد القليل ، يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها ، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل ، فإنه يجوز فيه الخيانة ، ونظيره قوله تعالى : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) [ النساء : 20 ] وعلى هذا الوجه فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار ، وذكروا فيه وجوها :
الأول : أن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا : لأن الآية نزلت في حين استودعه رجل من عبد الله بن سلام قريش ألفا ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه ، فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار .
الثاني : روي عن أنه ملء جلد ثور من المال . ابن عباس
الثالث : قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم ، وقد تقدم القول في تفسير القنطار .
المسألة الرابعة : قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر " يؤده " بسكون الهاء ، وروي ذلك عن أبي عمرو ، وقال الزجاج : هذا غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في " بارئكم " بإسكان الهمزة ، وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة ، واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة بأن قال : الجزاء ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء ، والهاء اسم المكنى ، والأسماء لا تجزم في الوصل ، وقال الفراء : من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها ، فيقول : ضربته ضربا شديدا كما يسكنون " ميم " أنتم وقمتم وأصلها الرفع ، وأنشد :
لما رأى أن لا دعه ولا شبع
وقرئ أيضا باختلاس حركة الهاء اكتفاء بالكسرة من الياء ، وقرئ بإشباع الكسرة في الهاء وهو الأصل .