[ ص: 111 ] ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم )
قوله تعالى : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم )
اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) أكد ذلك التعظيم بأن بين ، فقال : ( وعيد من ترك الإسلام كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في سبب النزول أقوال : الأول : قال رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا ابن عباس بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ، وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله : ( إلا الذين تابوا ) . الثاني : نقل أيضا عن أنه قال : نزلت في ابن عباس يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه ، وكانوا يشهدون له بالنبوة ، فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغيا وحسدا .
والثالث : نزلت في وهو رجل من الحرث بن سويد الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة ؟ فأرسل إليه أخوه بالآية ، فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - توبته ، قال القفال رحمه الله : للناس في هذه الآية قولان : منهم من قال إن قوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا ) ، وما بعده من قوله : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ) إلى قوله : ( وأولئك هم الضالون ) نزل جميع ذلك في قصة واحدة ، ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله :
( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ) [ البقرة : 161 ] ، ثم على التقديرين ففيها أيضا قولان : أحدهما : أنها في أهل الكتاب ، والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه .
المسألة الثانية : اختلف العقلاء في تفسير قوله : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ) ، أما المعتزلة فقالوا : إن أصولنا تشهد بمعنى التعريف ، ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذورا ، ثم بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين ، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوها : إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار
الأول : المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم ، كما قال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [ العنكبوت : 69 ] ، وقال تعالى : ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) [ مريم : 76 ] ، وقال تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] ، وقال : ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ) [ المائدة : 16 ] ، فدلت هذه الآيات على أن . المهتدي قد يزيده الله هدى
الثاني : أن المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنة [ ص: 112 ] قال تعالى : ( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم ) [ النساء : 168 ، 169 ] ، وقال : ( يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار ) [ يونس : 9 ] . والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضا من الله تعالى ؛ لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمنا مهتديا ، وإذا لم يخلقها كان كافرا ضالا ، ولو كان الكفر من الله تعالى لم يصح أن يذمهم الله على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم ، لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر ، فإنه تعالى قال : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ) ، فأضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر ، فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية ، وأما أهل السنة فقالوا : المراد من الهداية خلق المعرفة ، قالوا : وقد جرت سنة الله في دار التكليف أن ، فكأنه تعالى قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه ، والله أعلم . كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله ، فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد