أما قوله تعالى : ( من قبل أن تنزل التوراة ) فالمعنى أن لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه ، أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعا كثيرة ، روي أن قبل نزول التوراة كان حلا بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعا من أنواع الطعام ، أو سلط عليهم شيئا لهلاك أو مضرة ، دليله قوله تعالى : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] .
ثم قال تعالى : ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجودا من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ، فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وإما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم ، وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه ، فنازعوه في ذلك ، فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول ، وعلى كلا الوجهين ، فالتفسير ظاهر ، أن يحتجوا بهذه الآية ، وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله ، ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا : لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه ، لأنا نثبته بالقياس ، ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي ، وإنما وقع في أن هذا الحكم ، هل كان موجودا في زمان ولمنكري القياس إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا ؟ ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص ، فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، بنص التوراة .
ثم قال تعالى : ( فمن افترى على الله الكذب ) الافتراء اختلاق الكذب ، والفرية الكذب والقذف ، وأصله من فري الأديم ، وهو قطعه ، فقيل للكذب افتراء ، لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود .
ثم قال : ( من بعد ذلك ) أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ، ولم يكن محرما قبله ( فأولئك هم الظالمون ) المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين .
ثم قال تعالى : ( قل صدق الله ) ويحتمل وجوها :
أحدها : ( قل صدق ) في أن ذلك النوع من الطعام صار حراما على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالا لهم فصح القول بالنسخ ، وبطلت شبهة اليهود .
وثانيها : ( صدق الله ) في قوله : إن لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على لحوم الإبل وألبانها كانت محللة بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه ، فثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها ، فقد أفتى بملة إبراهيم .
وثالثها : ( صدق الله ) في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم .
ثم قال تعالى : ( فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ) أي محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم ، وسواء قال : ملة اتبعوا ما يدعوكم إليه إبراهيم حنيفا ، أو قال : ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى .
[ ص: 124 ] ثم قال : ( وما كان من المشركين ) أي لم يدع مع الله إلها آخر ، ولا عبد سواه ، كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر ، أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزيرا ابن الله ، وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله ، والغرض منه محمدا صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام ، في الفروع والأصول . بيان أن
أما في الفروع ، فلما ثبت أن ما حكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضا ، وأما في الأصول فلأن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى ، وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين .