المسألة الثالثة : إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر هاهنا وجوه فضيلة البيت    : 
الفضيلة الأولى : اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل  عليه السلام ، وباني بيت المقدس  سليمان  عليه السلام ، ولا شك أن الخليل  أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان  عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة  أشرف من بيت المقدس     . 
واعلم أن الله تعالى أمر الخليل  عليه السلام بعمارة هذا البيت ، فقال : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود    ) [ الحج : 26 ] ، والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل  عليه السلام ، فلهذا قيل : ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة  ، فالآمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل  ، والباني هو الخليل  ، والتلميذ إسماعيل  عليهم السلام . 
الفضيلة الثانية : ( مقام إبراهيم    ) وهو الحجر الذي وضع إبراهيم  قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم  عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم  عليه السلام ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء ، ثم لما رفع إبراهيم  قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى ، ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام ، فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر . 
الفضيلة الثالثة : قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار ، فإنه منذ ألف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان ، كل واحد منهم سبعين حصاة ، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير ، وليس الموضع الذي ترمى إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة ، وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء . 
الفضيلة الرابعة : أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة  عند طيرانها في الهواء  بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها . 
الفضيلة الخامسة : أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضا كالكلاب والظباء ، ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة ، وأيضا كل من سكن مكة  أمن من النهب والغارة  وهو بركة دعاء إبراهيم  عليه السلام حيث قال : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا    ) [ البقرة : 126 ] وقال تعالى في صفة أمنه : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم    ) [ العنكبوت : 67 ] وقال : ( فليعبدوا رب هذا البيت  الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف    ) [ قريش : 4 ]   [ ص: 128 ] ولم ينقل ألبتة أن ظالما هدم الكعبة  وخرب مكة  بالكلية    ; وأما بيت المقدس  فقد هدمه بختنصر  بالكلية . 
الفضيلة السادسة : أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم  لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة  لتخريب الكعبة   وعجز قريش  عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة  وتركوا له الكعبة  فأرسل الله عليهم طيرا أبابيل ، والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صغارا تحمل أحجارا ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر ، وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة  وإرهاص لنبوة محمد  عليه الصلاة والسلام . 
فإن قال قائل : لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور . 
قلنا : لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسما مخالفا لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة  مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة ، ومثل هذا يكون من المعجزات ، فلا يتمكن منها سوى الأنبياء . 
الفضيلة السابعة : إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع . والحكمة من وجوه ، أحدها : أنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله . وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة  فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع ، فالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا . وثالثها : أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط . ورابعها : أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيبا من الدنيا  ، فكأنه قال : جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين  ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن . وخامسها : كأنه قال : لما لم أجعل الكعبة  إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا ، فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة  ، وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب ، وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود    : إن بيت المقدس  أشرف من الكعبة   ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					