( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين )
قوله تعالى : ( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين )
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر ، أو يوم أحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في ( إذ ) فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في ( إذ ) قوله : ( نصركم الله ) والتقدير : إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين ، وإن قلنا إنه حصل يوم أحد كان ذلك بدلا ثانيا من قوله : ( وإذ غدوت ) .
إذا عرفت هذا فنقول :
القول الأول : أنه يوم أحد ، وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق ، والحجة عليه من وجوه :
الحجة الأولى : أن بدر إنما أمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال : ( يوم إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة ) [ الأنفال : 9 ] فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر ؟
الحجة الثانية : أن بدر ألفا أو ما يقرب منه ، والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم الكفار كانوا يوم بدر ألفا من الملائكة ، فصار عدد الكفار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك أحد كان عدد المسلمين ألفا ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، كما في يوم يوم بدر ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلا بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلا على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة [ ص: 184 ] آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم ، ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد .
الحجة الثالثة : أنه تعالى قال في هذه الآية : ( ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) [ آل عمران : 125 ] والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء .
فإن قيل : لو جرى قوله تعالى : ( ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ) في يوم أحد ، ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب .
والجواب عنه من وجهين . الأول : أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم إنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم ، بل خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط ، وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد ، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد ، فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط .
الوجه الثاني : في الجواب : لا نسلم أن الملائكة ما نزلت ، روى عن الواقدي أنه قال : مجاهد أحد ولكنهم لم يقاتلوا ، وروي حضرت الملائكة يوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اللواء فقتل مصعب بن عمير مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم يا مصعب فقال الملك : لست بمصعب فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك أمد به ، وعن رضي الله عنه أنه قال : كنت أرمي السهم يومئذ فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه ، فظننت أنه ملك ، فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه . سعد بن أبي وقاص
إذا عرفت هذا فنقول : نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد ، ثم قال : ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع ، ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال : ( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ) .
القول الثاني : أن هذا الوعد كان يوم بدر ، وهو قول أكثر المفسرين ، واحتجوا على صحته بوجوه .
الحجة الأولى : أن الله تعالى قال : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) ( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ) كذا وكذا ، فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام ، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر .
الحجة الثانية : أن بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر ، فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى . قلة العدد والعدد كانت يوم
الحجة الثالثة : أن كان مطلقا غير مشروط بشرط ، فوجب أن يحصل ، وهو إنما حصل يوم الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة بدر لا يوم أحد ، وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة ، والإعانة حصلت [ ص: 185 ] يوم بدر ولم تحصل يوم أحد ، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا :
أما الحجة الأولى : وهي قولكم : الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة .
فالجواب عنها : من وجهين : الأول : أنه تعالى أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا : بلى ، ثم قال : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف ؟ فقالوا : بلى ، ثم قال لهم : إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف ، وهو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " " . أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قالوا : نعم . قال : أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قالوا : نعم . قال : فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة
الوجه الثاني في الجواب : أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال ، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد ، بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش ، فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف .
وأما الحجة الثانية : وهي قولكم : إن الكفار كانوا يوم بدر ألفا فأنزل الله ألفا من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف .
فالجواب : إنه تقريب حسن ، ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك ، بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد .
وأما الحجة الثالثة : وهي التمسك بقوله : ( ويأتوكم من فورهم ) .
فالجواب عنه : أن المشركين لما سمعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى : أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين ، والله أعلم بمراده .