المسألة الثانية : ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيه فعلا ، وكانت هذه الآية كالمنع منه ، وعند هذا يتوجه الإشكال ، وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى ، فكيف منعه الله منه ؟ وإن قلنا : إنه ما كان بأمر الله تعالى وبإذنه ، فكيف يصح هذا مع قوله : ( وما ينطق عن الهوى ) [ النجم : 3 ] وأيضا دلت الآية على عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسنا فلم منعه الله ؟ وإن كان قبيحا ، فكيف يكون فاعله معصوما ؟ عصمة الأنبياء
والجواب من وجوه . الأول : أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلا به فإنه تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] وأنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك قط وقال : ( ياأيها النبي اتق الله ) [ الأحزاب : 1 ] فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ، ثم قال : ( ولا تطع الكافرين ) [ الأحزاب : 1 ] وهذا لا يدل على أنه أطاعهم ، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد ، والغضب العظيم ، وهو مثلة عمه حمزة ، وقتل المسلمين ، والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل ، فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيدا لطهارته . والثاني : لعله عليه الصلاة والسلام إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى ، فلا جرم أرشده الله إلى اختيار الأفضل والأولى ، ونظيره قوله تعالى : [ ص: 191 ] ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ) [ النحل : 126 ] كأنه تعالى قال : إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ، ثم قال ثانيا : وإن تركته كان ذلك أولى ، ثم أمره أمرا جازما بتركه ، فقال : ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) [ النحل : 126 ] .
الوجه الثالث : في الجواب : لعله صلى الله عليه وسلم لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه ، فنص الله تعالى على المنع منه ، وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة .