المسألة الثانية : أن الإنسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لإنسان ، ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها ، فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ، ثم يعرض ههنا حالتان :
إحداهما : أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان .
والأخرى : أن لا يتمنى ذلك ، بل يتمنى حصول مثلها له .
أما الأول فهو ؛ لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه : الإحسان إلى عبيده والجود إليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم ، فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله تعالى فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين ، وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الإنسان ، فيكون هذا اعتراضا على الله ، وقدحا في حكمته ، وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ، ويزيل عن قلبه نور الإيمان ، وكما أن الحسد المذموم ، فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا ، فإنه يقطع المودة والمحبة والموالاة ، ويقلب كل ذلك إلى أضدادها ؛ فلهذا السبب نهى الله عباده عنه فقال : ( الحسد سبب للفساد في الدين ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) .
واعلم أن سبب المنع من هذا يختلف باختلاف أصول الأديان ، أما على مذهب أهل السنة والجماعة ، فهو أنه تعالى فعال لما يريد : ( الحسد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [ الأنبياء : 23 ] فلا اعتراض عليه في فعله ، ولا مجال لأحد في منازعته ، وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وإذا كان كذلك فقد صارت أبواب القيل والقال مسدودة ، وطرق الاعتراضات مردودة . وأما على مذهب المعتزلة فهذا الطريق أيضا مسدود ؛ لأنه سبحانه علام الغيوب فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ودقائق الحكم ؛ ولهذا المعنى قال : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) [ الشورى : 27 ] وعلى التقديرين فلا بد لكل عاقل من ؛ ولهذا المعنى حكى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن رب العزة أنه قال : " الرضا بقضاء الله سبحانه من استسلم لقضائي ، وصبر على بلائي ، وشكر لنعمائي ، كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ، ومن لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، ولم يشكر لنعمائي ، فليطلب ربا سواي " . فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الإنسان ، ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة " . والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد . أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له ، فمن الناس من جوز ذلك ، إلا أن المحققين قالوا : هذا أيضا لا يجوز ؛ لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ، ومضرة عليه في الدنيا ؛ فلهذا السبب قال المحققون : إنه لا يجوز للإنسان أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ، وزوجة مثل زوجة فلان ، بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي . وإذا تأمل الإنسان كثيرا لم يجد دعاء أحسن مما ذكره الله في القرآن تعليما لعباده ، وهو قوله : ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ، ولا يسوم على سوم أخيه ، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها ، فإن الله هو رازقها آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ) [ البقرة : 201 ] وروى قتادة عن الحسن أنه قال : لا يتمن أحد المال ، فلعل هلاكه في ذلك المال كما في حق ثعلبة ، وهذا هو المراد بقوله في هذه الآية : ( واسألوا الله من فضله ) .