[ ص: 111 ]
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )
قوله تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )
اعلم أنه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى ، وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، أمر المؤمنين في هذه الآية ، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات ، أو من باب الدنيا والمعاملات ، وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وكان بأداء الأمانات في جميع الأمور ، لا جرم أمر بها في هذه الآية . وفي الآية مسائل : من أجل الأعمال الصالحة الأمانة
المسألة الأولى : روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة يوم الفتح أغلق - وكان سادن عثمان بن طلحة بن عبد الدار الكعبة - باب الكعبة ، وصعد السطح ، وأبى أن يدفع المفتاح إليه ، وقال : لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه ، فلوى - رضي الله عنه - يده وأخذه منه وفتح ، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى ركعتين ، فلما خرج سأله علي بن أبي طالب العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة ، فنزلت هذه الآية ، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه ، فقال عثمان لعلي : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فهبط جبريل - عليه السلام - وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن السدانة في أولاد عثمان أبدا . فهذا قول سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحق . وقال أبو روق : لعثمان : أعطني المفتاح فقال : هاك بأمانة الله ، فلما أراد أن يتناوله ضم يده ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك مرة ثانية : إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأعطني المفتاح ، فقال : هاك بأمانة الله ، فلما أراد أن يتناوله ضم يده ، فقال الرسول - عليه الصلاة والسلام - ذلك مرة ثالثة ، فقال عثمان في الثالثة : هاك بأمانة الله ، ودفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف ومعه المفتاح ، وأراد أن يدفعه إلى العباس ، ثم قال : يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس نصيبا معك ، فأنزل الله هذه الآية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان : " هاك خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم " ثم إن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده اليوم .
المسألة الثانية : اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية ، بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات ، واعلم أن معاملة الإنسان إما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد ، أو مع نفسه ، ولا بد من في جميع هذه الأقسام الثلاثة . رعاية الأمانة
أما : فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات ، وهذا بحر لا ساحل له ، قال رعاية الأمانة مع الرب ابن مسعود : الأمانة في كل شيء لازمة ، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم . وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : إنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال : هذا أمانة خبأتها عندك ، فاحفظها إلا بحقها . واعلم أن هذا باب واسع ، أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها ، وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام ، فأمانة اللسان أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي ، وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها ، وكذا القول في جميع الأعضاء . وأمانة السمع
وأما القسم الثاني : وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق ، فيدخل فيها رد الودائع ، ويدخل فيه ترك التطفيف [ ص: 112 ] في الكيل والوزن ، ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم ، ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة ، بل يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ، ويدخل فيه اليهود عن كتمان أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ونهيهم عن قولهم للكفار : إن ما أنتم عليه أفضل من دين نهي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويدخل فيه أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - برد المفتاح إلى ، ويدخل فيه عثمان بن طلحة ، وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره . وفي إخبارها عن انقضاء عدتها . أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها
وأما القسم الثالث : وهو ، فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا ، وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة ؛ ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " أمانة الإنسان مع نفسه " . فقوله : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات ) يدخل فيه الكل ، وقد عظم الله أمر الأمانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ) [ الأحزاب : 72 ] وقال : ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) [ المؤمنون : 8 ] وقال : ( وتخونوا أماناتكم ) [ الأنفال : 27 ] وقال - عليه الصلاة والسلام - : " " وقال لا إيمان لمن لا أمانة له : ميمون بن مهران : الأمانة والعهد وصلة الرحم . وقال القاضي : لفظ الأمانة وإن كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية : ( ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) فوجب أن يكون المراد بهذه الأمانة ما يجري مجرى المال ؛ لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير .
المسألة الثالثة : الأمانة مصدر سمي به المفعول ؛ ولذلك جمع فإنه جعل اسما خالصا . قال صاحب " الكشاف " : قرئ " الأمانة " على التوحيد .
المسألة الرابعة : قال : من أبو بكر الرازي ، والأكثرون على أنها غير مضمونة . وعن بعض السلف أنها مضمونة ، روى الأمانات الودائع ، ويجب ردها عند الطلب عن الشعبي أنس قال : استحملني رجل بضاعة ، فضاعت من بين ثيابي ، فضمنني - رضي الله عنه - . وعن عمر بن الخطاب أنس قال : كان لإنسان عندي وديعة ستة آلاف درهم ، فذهبت ، فقال عمر : ذهب لك معها شيء ؟ قلت : لا ، فألزمني الضمان . وحجة القول المشهور ما روى عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عمرو بن شعيب " وأما فعل لا ضمان على راع ولا على مؤتمن عمر فهو محمول على أن المودع اعترف بفعل يوجب الضمان .