ثم إلا أن يصدقوا ) أصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد ، ومعنى التصدق الإعطاء قال الله تعالى : ( قال تعالى : ( وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ) [ يوسف : 88 ] والمعنى : إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية . قال صاحب الكشاف : وتقدير الآية ، ويجب عليه الدية وتسليمها إلى حين يتصدقون عليه ، وعلى هذا فقوله : ( أن يصدقوا ) في محل النصب على الظرف ، ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين .
ثم قال تعالى : ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) .
فاعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى : أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية ، وذكر في هذه الآية أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا من قوم عدو لنا فعليه تحرير الرقبة وسكت عن ذكر الدية ، ثم ذكر بعد أن المقتول إن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وجبت الدية ، والسكوت عن إيجاب الدية في هذه الآية مع ذكرها فيما قبل هذه الآية ، وفيما بعدها يدل على أن الدية غير واجبة في هذه الصورة .
إذا ثبت هذا فنقول : كلمة " من " في قوله : ( من قوم عدو لكم ) إما أن يكون المراد منها كون هذا المقتول من سكان دار الحرب ، أو المراد كونه ذا نسب منهم ، والثاني باطل لانعقاد الإجماع على أن المسلم الساكن في دار الإسلام ، وجميع أقاربه يكونون كفارا ، فإذا قتل على سبيل الخطأ وجبت الدية في قتله ، ولما بطل هذا القسم تعين الأول فيكون المراد : وإن كان المقتول خطأ من سكان دار الحرب وهو مؤمن ، فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة ، فأما وجوب الدية فلا . قال رحمه الله : وكما دلت هذه الآية على هذا المعنى فالقياس يقويه ، أما أنه لا تجب الدية فلأنا لو أوجبنا الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب لاحتاج من يريد غزو دار الحرب إلى أن يبحث عن كل أحد أنه هل هو من المسلمين أم لا ، وذلك مما يصعب ويشف فيفضي ذلك إلى احتراز الناس عن الغزو ، فالأولى سقوط الدية عن قاتله لأنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره السكنى في دار الحرب ، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى ، لأنه لما صار ذلك الإنسان مقتولا فقد هلك إنسان كان مواظبا على عبادة الله تعالى ، والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله ، فإذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات ، فظهر أن القياس يقتضي سقوط الدية ، ويقتضي بقاء الكفارة والله أعلم . الشافعي