المسألة الخامسة : زعم داود  وأهل الظاهر  أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة ، وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة . احتج أهل الظاهر  بالآية فقالوا : إن قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة    ) جملة مركبة من شرط ، وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض ، والجزاء هو جواز القصر ، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلا أو قصيرا ، أقصى ما في الباب أن يقال : فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة ، ومن دار إلى دار ، إلا أنا نقول : 
الجواب عنه من وجهين : 
الأول : أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض ، فقد زال الإشكال ، وإن سمي بذلك فنقول : أجمع المسلمون على أنه غير معتبر ، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع ، والعام بعد التخصيص حجة ، فوجب أن يبقى النص معتبرا في السفر ، سواء كان قليلا أو كثيرا . 
والثاني : أن قوله : ( وإذا ضربتم في الأرض    ) يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطا لحصول هذه الرخصة ، فلو كان الضرب في الأرض اسما لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلا دائما ؛ لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد ، ومن المسجد إلى السوق ، وإذا كان حاصلا دائما امتنع جعله شرطا لثبوت هذا الحكم ، فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال وذلك هو الذي يسمى سفرا ، ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد ،   [ ص: 17 ] فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر ، أما الفقهاء فقالوا : أجمع السلف على أن أقل السفر  مقدر ، قالوا : والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات : 
فالرواية الأولى : ما روي عن عمر  أنه قال : يقصر في يوم تام ، وبه قال  الزهري   والأوزاعي    . 
الثانية : قال  ابن عباس    : إذا زاد على يوم وليلة قصر   . 
والثالثة : قال  أنس بن مالك    : المعتبر خمس فراسخ . 
الرابعة : قال الحسن    : مسيرة ليلتين . 
الخامسة : قال  الشعبي  ،  والنخعي  ،  وسعيد بن جبير    : من الكوفة  إلى المداين  ، وهي مسيرة ثلاثة أيام ، وهو قول  أبي حنيفة    . وروى  الحسن بن زياد  عن  أبي حنيفة  أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر  ، وهكذا رواه ابن سماعة  عن أبي يوسف  ومحمد    . 
السادسة : قال مالك   والشافعي    : أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم  جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم ، وهي أربعة آلاف خطوة ، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء : فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر . 
قال أهل الظاهر    : اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل ، يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا في تقدير المدة ، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب ، وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر ، فكان هذا الحكم ثابتا في مطلق السفر بحكم هذه الآية ، وإذا كان الحكم مذكورا في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط ؛ فلهذا سكتوا عن هذه المسألة . 
واعلم أن أصحاب  أبي حنيفة  عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام ، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافرا ، وإذا لم يكن مسافرا لم يحصل الرخص المشروعة في السفر ، وأما أصحاب  الشافعي    -رضي الله عنه- فإنهم عولوا على ما روى  مجاهد   وعطاء بن أبي رباح  عن  ابن عباس    : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا أهل مكة  لا تقصروا في أدنى من أربعة برد ، من مكة  إلى عسفان    . قال أهل الظاهر    : الكلام عليه من وجوه : 
الأول : أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد  ، وهو عندنا غير جائز لوجهين : 
الأول : أن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم ، والقرآن مقطوع المتن ، والخبر مظنون المتن ، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر ، فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز . 
والثاني : أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال : " إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه   " ، دل هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود ، فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتاب وجب أن يكون مردودا . 
الوجه الثاني : في دفع هذه الأخبار : وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة ، إنما قلنا : إن الحاجة إليها عامة ؛ لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو ، فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر ، كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين ، ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلا متواترا ، لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن ، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة ، وإذا كان الأمر كذلك   [ ص: 18 ] فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها . 
الثالث : أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة ، وإذا تعارضت تساقطت ، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن ، هذا تمام الكلام في هذا الموضع . 
والذي عندي في هذا الباب أن يقال : إن كلمة " إذا" وكلمة "إن" لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقبا للجزاء ، فأما كونه مستعقبا لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لازم ، بدليل أنه إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار ، أو إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت مرة  وقع الطلاق ، وإذا دخلت الدار ثانيا لا يقع ، وهذا يدل على أن كلمة "إذا" ، وكلمة "إن" لا يفيدان في العموم البتة ، وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر  بالآية ، فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص ، وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلا ، فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية ، لو قلنا : إن كلمة "إذا" للعموم ، ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقد سقط الاستدلال ، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن ، فكانت مقبولة صحيحة ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					