الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : شرح صلاة الخوف هو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بهم ركعة واحدة ، ثم إذا فرغوا من الركعة فكيف يصنعون ؟ فيه أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن تلك الطائفة يسلمون من الركعة الواحدة ، ويذهبون إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الأخرى ، ويصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم ، وهذا مذهب من يرى أن صلاة الخوف للإمام ركعتان ، وللقوم ركعة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين ، وهذا قول الحسن البصري .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة تامة ، ثم يبقى الإمام قائما في الركعة الثانية إلى أن تصلي هذه الطائفة ركعة أخرى ، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو ، ثم تأتي الطائفة الثانية ويصلون مع الإمام قائما في الركعة الثانية ركعة ، ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية ، ثم يسلم الإمام بهم ، وهذا قول سهل بن أبي حثمة ، ومذهب الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن الطائفة الأولى يصلي الإمام بهم ركعة ، ويعودون إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة ، وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بقراءة ، وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة ، والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة ، وهم في حكم من خلف الإمام ، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة ، والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته ، وهذا قول عبد الله بن مسعود ، ومذهب أبي حنيفة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه وردت الروايات المختلفة بهذه الصلاة ، فلعله صلى الله عليه وسلم صلى بهم هذه الصلاة في أوقات مختلفة ، بحسب المصلحة ، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أي هذه الأقسام ؟ أما الواحدي -رحمه الله- فقال : الآية مخالفة للروايات التي أخذ بها أبو حنيفة ، وبين ذلك من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى قال : ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا ) . وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية ، وعند أبي حنيفة ليس الأمر كذلك ؛ لأن الطائفة الثانية عنده تأتي والأولى بعد في الصلاة وما [ ص: 21 ] فرغوا منها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن قوله : ( فليصلوا معك ) ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام ؛ لأن مطلق قولك : صليت مع الإمام يدل على أنك أدركت جميع الصلاة معه ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا : الآية مطابقة لقولنا ؛ لأنه تعالى قال : ( فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ) . وهذا يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ، ولكنهم يصلون ركعة ، ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة ، وأجاب الواحدي عنه فقال : هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة ، وليس الأمر كذلك ، بل هو لطائفتين ، السجود للأولى ، والكون من ورائكم الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول : قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم ) . أي : وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم : ( فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ) . والمعنى : فاجعلهم طائفتين ، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم ، وليأخذوا أسلحتهم . والضمير إما للمصلين وإما لغيرهم ، فإن كان للمصلين فقالوا : يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة ؛ كالسيف والخنجر ؛ وذلك لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط ، وأمنع للعدو من الإقدام عليهم ، وإن كان لغير المصلين فلا كلام فيه . ويحتمل أن يكون ذلك أمرا للفريقين بحمل السلاح ؛ لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( فإذا سجدوا فليكونوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            يعني : غير المصلين : ( من ورائكم ) يحرسونكم ، وقد ذكرنا أن أداء الركعة الأولى مع الإمام في صلاة الخوف كهو في صلاة الأمن ، إنما التفاوت يقع في أداء الركعة الثانية فيه ، وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ) . وقد بينا أن هذه الآية دالة على صحة قول الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) . والمعنى : أنه تعالى جعل الحذر -وهو التحذر والتيقظ - آلة يستعملها الغازي ، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ ، وجعلا مأخوذين . قال الواحدي -رحمه الله- : وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم ذكر في الآية الأولى" أسلحتهم " فقط ، وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة ، بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة . أما في الركعة الثانية فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة ، فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم ، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير ، فقال : ( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) . أي : بالقتال . عن ابن عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الظهر ، ورأى المشركون ذلك ، فقالوا بعد ذلك : بئسما صنعنا حيث لم نقدم عليهم ، وعزموا على ذلك عند الصلاة الأخرى ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أسرارهم بهذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم ) [ ص: 22 ] والمعنى أنه إن تعذر حمل السلاح ؛ إما لأنه يصيبه بلل المطر فيسود وتفسد حدته ، أو لأن من الأسلحة ما يكون مبطنا فيثقل على لابسه إذا ابتل بالماء ، أو لأجل أن الرجل كان مريضا فيشق عليه حمل السلاح ، فههنا له أن يضع حمل السلاح .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية