( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما  واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما    ) 
قوله تعالى : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما  واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما    ) . 
في كيفية النظم وجوه : 
الأول : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ، ثم اتصل بذلك أمر المحاربة ، واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية ، مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر ، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ، رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين ، وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل  ويذر الحكم الحق ، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ، ولا يقبل قولهم في هذا الباب . 
والوجه الثاني في بيان النظم : أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه . 
الوجه الثالث : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأن كفر الكافر لا يبيح المسامحة بالنظر له ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل على رسوله ، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك ، وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق  ، ثم في كيفية الواقعة روايات : 
أحدها : أن طعمة  سرق درعا ، فلما طلبت الدرع منه رمى واحدا من اليهود  بتلك السرقة ، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي ، جاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود ، وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي ، فهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك فنزلت الآية   . 
وثانيها : أن واحدا وضع عنده درعا على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد ، فلما طلبها منه جحدها . 
وثالثها : أن المودع لما   [ ص: 27 ] طلب الوديعة زعم أن اليهودي سرق الدرع . 
واعلم أن العلماء قالوا : هذا يدل على أن طعمة  وقومه كانوا منافقين ، وإلا لما طلبوا من الرسول نصرة الباطل ، وإلحاق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان ، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى : ( وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء    ) [النساء : 113] . ثم روي أن طعمة  هرب إلى مكة  وارتد وثقب حائطا هناك ؛ لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات . 
المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي    : قوله : ( أراك الله ) إما أن يكون منقولا بالهمزة من " رأيت " . التي يراد بها رؤية البصر ، أو من رأيت التي تتعدى إلى المفعولين ، أو من رأيت التي يراد بها الاعتقاد ، والأول باطل ؛ لأن الحكم في الحادثة لا يرى بالبصر ، والثاني أيضا باطل ؛ لأنه يلزم أن يتعدى إلى ثلاثة لا إلى المفعولين بسبب التعدية ، ومعلوم أن هذا اللفظ لم يتعد إلا إلى مفعولين ؛ أحدهما الكاف التي هي للخطاب ، والآخر المفعول المقدر ، وتقديره : بما أراكه الله ، ولما بطل القسمان بقي الثالث ، وهو أن يكون المراد منه رأيت بمعنى الاعتقاد . 
المسألة الثالثة : اعلم أنه ثبت بما قدمنا أن قوله : ( بما أراك الله    ) معناه : بما أعلمك الله ، وسمي ذلك العلم بالرؤية ؛ لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور ؛ وكان عمر  يقول : لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى ، فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه ، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنا ولا يكون علما   . 
إذا عرفت هذا فنقول : قال المحققون : هذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالوحي والنص    . 
وإذا عرفت هذا فنقول : تفرع عليه مسألتان : 
إحداهما : أنه لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالنص ، ثبت أن الاجتهاد  ما كان جائزا له . 
والثانية : أن هذه الآية دلت على أنه ما كان يجوز له أن يحكم إلا بالنص ، فوجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله تعالى : ( واتبعوه ) [الأعراف : 158] وإذا كان كذلك وجب أن يكون العمل بالقياس  حراما . 
والجواب عنه : أنه لما قامت الدلالة على أن القياس حجة كان العمل بالقياس عملا بالنص في الحقيقة ، فإنه يصير التقدير كأنه تعالى قال : مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها ؛ بسبب أمر جامع بين الصورتين ، فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن ، وإذا كان الأمر كذلك كان العمل بهذا القياس عملا بعين النص . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					