( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )
قوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) .
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو ما روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره ، وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد ، وذهب إلى مكة ، ونقب جدار إنسان لأجل السرقة ، فتهدم الجدار عليه ومات فنزلت هذه الآية .
أما الشقاق والمشاققة فقد ذكرنا في سورة البقرة : أنه عبارة عن كون كل واحد منهما في شق آخر من الأمر ، أو عن كون كل واحد منهما فاعلا فعلا يقتضي لحوق مشقة بصاحبه ، وقوله : ( من بعد ما تبين له الهدى ) أي : من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام .
قال الزجاج : لأن طعمة هذا كان قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره ، وأظهر من سرقته ما دله ذلك على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ، فكان ذلك إظهار الشقاق بعدما تبين له الهدى . قوله : ( فعادى الرسول وأظهر الشقاق وارتد عن دين الإسلام ويتبع غير سبيل ) [ ص: 35 ] ( المؤمنين ) يعني : غير دين الموحدين ؛ وذلك لأن طعمة ترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأوثان .
ثم قال : ( نوله ما تولى ) أي : نتركه وما اختار لنفسه ، ونكله إلى ما توكل عليه .
قال بعضهم : هذا منسوخ بآية السيف ، لا سيما في حق المرتد .
ثم قال : ( ونصله جهنم ) يعني : نلزمه جهنم ، وأصله الصلاء ، وهو لزوم النار وقت الاستدفاء : ( وساءت مصيرا ) انتصب ( مصيرا ) على التمييز كقولك : فلان طاب نفسا ، وتصبب عرقا ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : روي أن -رضي الله عنه- سئل عن الشافعي ، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية ، وتقرير الاستدلال : أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام ، فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا ، بيان المقدمة الأولى أنه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ، ويتبع غير سبيل المؤمنين ، ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد ، فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجبا له لكان ذلك ضما لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد وأنه غير جائز ، فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام ، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجبا ؛ وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين ، فإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراما ، وإذا كان عدم اتباعهم حراما كان اتباعهم واجبا ؛ لأنه لا خروج عن طرفي النقيض . آية في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة
فإن قيل : لا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين ، فإنه لا يمتنع أن لا يتبع لا سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين .
وأجيب عن هذا السؤال : بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل ما فعل الغير ، فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يتبعوا سبيل المؤمنين ، فكل من لم يتبع سبيل المؤمنين فقد أتى بمثل فعل غير المؤمنين ، فوجب كونه متبعا لهم ، ولقائل أن يقول : الاتباع ليس عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير ، وإلا لزم أن يقال : الأنبياء والملائكة متبعون لآحاد الخلق من حيث إنهم يوحدون الله كما أن كل واحد من آحاد الأمة يوحد الله ، ومعلوم أن ذلك لا يقال ، بل الاتباع عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير ؛ لأجل أنه فعل ذلك الغير ، وإذا كان كذلك فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين ، لأجل أنه ما وجد على وجوب متابعتهم دليلا ، فلا جرم لم يتبعهم ، فهذا الشخص لا يكون متبعا لغير سبيل المؤمنين ، فهذا سؤال قوي على هذا الدليل ، وفيه أبحاث أخر دقيقة ذكرناها في كتاب المحصول في علم الأصول ، والله أعلم .
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على وجوب محمد صلى الله عليه وسلم عن جميع الذنوب ، والدليل عليه : أنه لو صدر عنه ذنب لجاز منعه ، وكل من منع غيره عن فعل يفعله كان مشاققا له ؛ لأن كل واحد منهما يكون في شق غير الشق الذي يكون الآخر فيه ، فثبت أنه لو صدر الذنب عن الرسول لوجبت مشاقته ، لكن مشاقته محرمة بهذه الآية فوجب أن لا يصدر الذنب عنه . عصمة
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أنه يجب إذ لو كان فعل الأمة غير فعل الرسول لزم كون كل واحد منهما في شق آخر من العمل فتحصل المشاقة ، لكن المشاقة محرمة ، فيلزم وجوب الاقتداء به في أفعاله . الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في أفعاله
[ ص: 36 ] المسألة الرابعة : قال بعض المتقدمين : ، لا بمعنى أن اعتقاد كل واحد منهم مطابق للمعتقد ، بل بمعنى سقوط الإثم عن المخطئ ، واحتجوا على قولهم بهذه الآية قالوا : لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى ، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط ، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل تبين الهدى أن لا يكون الوعيد حاصلا . كل مجتهد مصيب في الأصول
وجوابه : أنه تمسك بالمفهوم ، وهو دلالة ظنية عند من يقول به ، والدليل الدال على أن وعيد الكفار قطعي أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) . والقاطع لا يعارضه المظنون .
المسألة الخامسة : الآية دالة على أنه ؛ وذلك لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى ، ولو لم يكن تبين الهدى معتبرا في صحة الدين وإلا لم يكن لهذا الشرط معنى . لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال
المسألة السادسة : الآية دالة على أن الهدى اسم للدليل لا للعلم ، إذ لو كان الهدى اسما للعلم لكان تبين الهدى إضافة الشيء إلى نفسه وإنه فاسد .