( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم    ) 
وسادسها : قوله تعالى : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله    ) . 
وهذا يدل على كفر عظيم منهم لأنهم قالوا فعلنا ذلك ، وهذا يدل على أنهم كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك ، فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم . 
فإن قيل   : اليهود  كانوا كافرين بعيسى  أعداء له عامدين لقتله  يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن   [ ص: 79 ] الفاعلة ، فكيف قالوا : إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم  رسول الله ؟ 
والجواب عنه من وجهين : 
الأول : أنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون    ) [الشعراء : 27] وكقول كفار قريش  لمحمد    - صلى الله عليه وسلم - : ( وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون    ) [الحجر : 6] . 
والثاني : أنه يجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعا لعيسى    - عليه السلام - عما كانوا يذكرونه به . 
ثم قال تعالى : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم    ) . 
واعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود  أنهم زعموا أنهم قتلوا عيسى    - عليه السلام - فالله تعالى كذبهم في هذه الدعوى وقال : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم    ) وفي الآية سؤالان : 
السؤال الأول : قوله ( شبه    ) مسند إلى ماذا ؟ إن جعلته مسندا إلى المسيح فهو مشبه به وليس بمشبه ، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر . 
والجواب من وجهين : 
الأول : أنه مسند إلى الجار والمجرور ، وهو كقولك : خيل إليه ، كأنه قيل : ولكن وقع لهم الشبه . 
الثاني : أن يسند إلى ضمير المقتول لأن قوله : ( وما قتلوه    ) يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكورا بهذا الطريق ، فحسن إسناد ( شبه    ) إليه . 
السؤال الثاني : أنه إن جاز أن يقال : إن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة ، فإنا إذا رأينا زيدا فلعله ليس بزيد ، ولكنه ألقي شبه زيد عليه ، وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والملك موثوقا به ، وأيضا يفضي إلى القدح في التواتر لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس  ، فإذا جوزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر ، وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع ، وليس لمجيب أن يجيب عنه بأن ذلك مختص بزمان الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لأنا نقول : لو صح ما ذكرتم فذاك إنما يعرف بالدليل والبرهان ، فمن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان وجب أن لا يقطع بشيء من المحسوسات ووجب أن لا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة ، وأيضا ففي زماننا إن انسدت المعجزات فطريق الكرامات مفتوح ، وحينئذ يعود الاحتمال المذكور في جميع الأزمنة ، وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر ، والطعن فيه يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول فكان مردودا . 
والجواب : اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوها : 
الأول : قال كثير من المتكلمين : إن اليهود  لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء ، فخاف رؤساء اليهود  من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح ، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس ، وبهذا الطريق زال السؤال . لا يقال : إن النصارى  ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولا ، لأنا نقول : إن تواتر النصارى  ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب . 
والطريق الثاني : أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر ثم فيه وجوه : 
الأول : أن اليهود  لما علموا أنه   [ ص: 80 ] حاضر في البيت الفلاني مع أصحابه أمر يهوذا  رأس اليهود  رجلا من أصحابه يقال له طيطايوس  أن يدخل على عيسى    - عليه السلام - ويخرجه ليقتله ، فلما دخل عليه أخرج الله عيسى    - عليه السلام - من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى  فظنوه هو فصلبوه وقتلوه . 
الثاني : وكلوا بعيسى  رجلا يحرسه وصعد عيسى    - عليه السلام - في الجبل ورفع إلى السماء ، وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى    . 
الثالث : أن اليهود  لما هموا بأخذه وكان مع عيسى  عشرة من أصحابه فقال لهم : من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي ؟ فقال واحد منهم أنا ، فألقى الله شبه عيسى  عليه فأخرج وقتل ، ورفع الله عيسى    - عليه السلام    - . 
الرابع : كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى    - عليه السلام - ، وكان منافقا فذهب إلى اليهود  ودلهم عليه ، فلما دخل مع اليهود  لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب . وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور . 
				
						
						
