ثم قال تعالى : ( فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قيل : كانت علامة القبول أن تأكله النار وهو قول أكثر المفسرين . وقال  مجاهد    : علامة الرد أن تأكله النار ، والأول أولى لاتفاق أكثر المفسرين عليه . وقيل : ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى ، فكانت النار تنزل من السماء فتأكله . 
المسألة الثانية : إنما صار أحد القربانين مقبولا والآخر مردودا ؛ لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال    . قال تعالى ههنا حكاية عن المحق ( إنما يتقبل الله من المتقين    ) وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم    ) ( الحج : 37 ) فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى ، والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام : " التقوى ههنا   " وأشار إلى القلب ، وحقيقة التقوى  أمور : 
أحدها : أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقي بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير . 
وثانيها : أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى . 
وثالثها : أن يتقي أن يكون لغير الله فيه شركة ، وما أصعب رعاية هذه الشرائط وقيل في هذه القصة : إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه ، والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه . وقيل : إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ، ولا يزوج أخته من هابيل    . وقيل : كان قابيل  ليس من أهل التقوى والطاعة ، فلذلك لم يقبل الله قربانه . 
ثم حكى الله تعالى عن قابيل  أنه قال لهابيل    : ( لأقتلنك    ) فقال هابيل    ( إنما يتقبل الله من المتقين    ) وفي الكلام حذف ، والتقدير : كأن هابيل  قال : لم تقتلني ؟ قال لأن قربانك صار مقبولا ، فقال هابيل    : وما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين . وقيل : هذا من كلام الله تعالى لنبيه محمد  صلى الله عليه وسلم اعتراضا بين القصة ، كأنه تعالى بين لمحمد  صلى الله عليه وسلم أنه إنما لم يقبل قربانه لأنه لم يكن متقيا . 
ثم حكى تعالى عن الأخ المظلوم أنه قال : 
( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين    ) 
والسؤال الأول : وهو أنه لم لم يدفع القاتل عن نفسه مع أن الدفع عن النفس واجب  ؟ وهب أنه ليس بواجب فلا أقل من أنه ليس بحرام ، فلم قال ( إني أخاف الله رب العالمين    ) .   [ ص: 163 ] 
والجواب من وجوه : 
الأول : يحتمل أن يقال : لاح للمقتول بأمارات تغلب على الظن أنه يريد قتله ، فذكر له هذا الكلام على سبيل الوعظ والنصيحة ، يعني أنا لا أجوز من نفسي أن أبدأك بالقتل الظلم العدوان ، وإنما لا أفعله خوفا من الله تعالى ، وإنما ذكر له هذا الكلام قبل إقدام القاتل على قتله ، وكان غرضه منه تقبيح القتل العمد في قلبه ، ولهذا يروى أن قابيل  صبر حتى نام هابيل  فضرب رأسه بحجر كبير فقتله . 
والوجه الثاني في الجواب : أن المذكور في الآية قوله : ( ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك    ) يعني لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك ، وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع . وقال أهل العلم : الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر ، وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع ، ثم إن لم يندفع إلا بالقتل جاز له ذلك . 
الوجه الثالث : قال بعضهم : المقصود بالقتل إن أراد أن يستسلم جاز له ذلك ، وهكذا فعل عثمان  رضي الله تعالى عنه . وقال النبي عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة    : " ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل   " . 
الوجه الرابع : وجوب الدفع عن النفس  أمر يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع . وقال  مجاهد    : إن الدفع عن النفس ما كان مباحا في ذلك الوقت . 
السؤال الثاني : لم جاء الشرط بلفظ الفعل ، والجزاء بلفظ اسم الفاعل ، وهو قوله : ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط    )    . 
والجواب : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ، ولذلك أكده بالباء المؤكد للنفي . 
				
						
						
