المسألة الثالثة : قال جمهور الفقهاء : القطع لا يجب إلا عند شرطين    : قدر النصاب ، وأن تكون السرقة من الحرز ، وقال  ابن عباس  وابن الزبير   والحسن البصري    : القدر غير معتبر ، فالقطع واجب في سرقة القليل والكثير ، والحرز أيضا غير معتبر ، وهو قول داود الأصفهاني  ، وقول الخوارج  ، وتمسكوا في المسألة بعموم الآية كما قررناه ، فإن قوله ( والسارق والسارقة    ) يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من   [ ص: 178 ] الحرز أو من غير الحرز . 
إذا ثبت هذا فنقول : لو ذهبنا إلى التخصيص لكان ذلك إما بخبر الواحد ، أو بالقياس ، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس  غير جائز ، وحجة جمهور الفقهاء أنه لا حاجة بنا إلى القول بالتخصيص ، بل نقول : إن لفظ السرقة لفظة عربية ، ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة من حنطة الغير ، أو تبنة واحدة ، أو كسرة صغيرة من خبز : إنه سرق ماله ، فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة ، وأيضا السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك ، وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمرا يكون متعلق الرغبة في محل الشح والضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل ؛ لأن ما لا يكون موضوعا في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين  فلا يسمى أخذه سرقة . وقال داود    : نحن لا نوجب القطع في سرقة الحبة الواحدة  ، ولا في سرقة التبنة الواحدة ، بل في أقل شيء يجري فيه الشح والضنة ، وذلك مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة ، فربما استحقر الملك الكبير آلافا مؤلفة ، وربما استعظم الفقير طسوجا ، ولهذا قال  الشافعي  رحمه الله : لو قال لفلان علي مال عظيم ، ثم فسر بالحبة ، يقبل قوله فيه لاحتمال أنه كان عظيما عنده لغاية فقره وشدة احتياجه إليه ، ولما كانت مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة وجب بناء الحكم على أقل ما يسمى مالا ، وليس لقائل أن يستبعد ويقول : كيف يجوز قطع اليد في سرقة الطسوجة الواحدة ؛ لأن الملحدة قد جعلوا هذا طعنا في الشريعة ، فقالوا : اليد لما كانت قيمتها خمسمائة دينار من الذهب ، فكيف تقطع لأجل القليل من المال ؟ ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل ، فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة بهذه العقوبة العظيمة ، وإذا كان هذا الجواب مقبولا من الكل فليكن أيضا مقبولا منا في إيجاب القطع في القليل والكثير . قال : ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن ههنا بخبر الواحد ؛ وذلك لأن القائلين بتخصيص هذا العموم اختلفوا على وجوه ، فقال  الشافعي  رحمه لله : يجب القطع في ربع دينار  ، وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام : " لا قطع إلا في ربع دينار   " وقال  أبو حنيفة  رحمه الله : لا يجوز القطع إلا في عشرة دراهم مضروبة ، وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام : " لا قطع إلا في ثمن المجن    " والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم . وقال مالك  وأحمد  وإسحاق    : إنه مقدر بثلاثة دراهم أو ربع دينار . وقال  ابن أبي ليلى    : مقدر بخمسة دراهم ، وكل واحد من هؤلاء المجتهدين يطعن في الخبر الذي يرويه الآخر ، وعلى هذا التقدير فهذه المخصصات صارت متعارضة فوجب أن لا يلتفت إلى شيء منها ، ويرجع في معرفة حكم الله تعالى إلى ظاهر القرآن . قال : وليس لأحد أن يقول : إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أنه لا يجب القطع إلا في مقدار معين . قال : لأن  الحسن البصري  كان يوجب القطع بمطلق السرقة ، وكان يقول : احذر من قطع يدك بدرهم ، ولو كان الإجماع منعقدا لما خالف  الحسن البصري  فيه مع قربه من زمان الصحابة وشدة احتياطه فيما يتعلق بالدين ، فهذا تقرير مذهب  الحسن البصري  وداود الأصفهاني    . 
وأما الفقهاء فإنهم اتفقوا على أنه لا بد في وجوب القطع من القدر ، ثم قال  الشافعي  رحمه الله : القطع في ربع دينار فصاعدا وهو نصاب السرقة  ، وسائر الأشياء تقوم به . وقال  أبو حنيفة   والثوري    : لا يجب القطع   [ ص: 179 ] في أقل من عشرة دارهم مضروبة ، ويقوم غيرها بها . وقال مالك  رحمه الله : ربع دينار أو ثلاثة دراهم . وقال  ابن أبي ليلى    : خمسة دراهم . 
حجة  الشافعي  رحمه الله أن ظاهر قوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما    ) يوجب القطع في القليل والكثير ، إلا أن الفقهاء توافقوا فيما بينهم على أنه لا يجب القطع فيما دون ربع دينار ، فوجب أن يبقى في ربع دينار فصاعدا على ظاهر النص ، ثم أكد هذا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا قطع إلا في ربع دينار   " . 
وأما الذي تمسك به  أبو حنيفة  رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام : " لا قطع إلا في ثمن المجن   " فهو ضعيف لوجهين : 
الأول : أن ثمن المجن مجهول ، فتخصيص عموم القرآن بخبر واحد مجمل مجهول المعنى لا يجوز . 
الثاني : أنه إن كان ثمن المجن مقدرا بعشرة دراهم كان التخصيص الحاصل بسببه في عموم قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما    ) أكثر من التخصيص الحاصل في عموم هذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام : " لا قطع إلا في ربع دينار   " فكان الترجيح لهذا الجانب . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					