قوله تعالى : ( ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون )
اعلم أنه سبحانه لما ذكر دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم وفيه مسائل : اعترفوا بالدين بألسنتهم ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم
[ ص: 19 ] المسألة الأولى : قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق وكان قد خاصم يهوديا في أرض ، وكان اليهودي يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما ، وجعل المنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ، ويقول إن محمدا يحيف علينا وقد مضت قصتهما في سورة النساء . وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين أرض فتقاسما فوقع إلى علي بن أبي طالب علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة ، فقال المغيرة بعني أرضك فباعها إياه وتقابضا ، فقيل للمغيرة أخذت سبخة لا ينالها الماء . فقال لعلي اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فلا ينالها الماء ، فقال علي بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك ، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المغيرة : أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي ، فنزلت هذه الآية ، وقال الحسن نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر .
المسألة الثانية : قوله : ( ويقولون آمنا ) إلى قوله : ( وما أولئك بالمؤمنين ) يدل على أن ، إذ لو كان به لما صح أن ينفي كونهم مؤمنين ، وقد فعلوا ما هو إيمان في الحقيقة ، فإن قيل إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون آمنا ، ثم حكى عن فريق منهم التولي فكيف يصح أن يقول في جميعهم ( الإيمان لا يكون بالقول وما أولئك بالمؤمنين ) مع أن الذي تولى منهم هو البعض ؟ قلنا إن قوله : ( وما أولئك بالمؤمنين ) راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى ، وأيضا فلو رجع إلى الأول يصح ويكون معنى قوله : ( ثم يتولى فريق منهم ) أي يرجع هذا الفريق إلى الباقين منهم فيظهر بعضهم لبعض الرجوع عما أظهروه ، ثم بين سبحانه أنهم ، وهذا ترك للرضا بحكم الرسول ، ونبه بقوله تعالى : ( إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ) على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم ، أو شكوا فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض ، بل سارعوا إلى الحكم وأذعنوا ببذل الرضا ، وفي ذلك دلالة على أنه ليس بهم اتباع الحق ، وإنما يريدون النفع المعجل ، وذلك أيضا نفاق .
أما قوله تعالى : ( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ) ففيه سؤالات :
السؤال الأول : كلمة "أم" للاستفهام وهو غير جائز على الله تعالى . والجواب : اللفظ استفهام ومعناه الخبر . كما قال جرير :
ألستم خير من ركب المطايا [وأندى العالمين بطون راح]
السؤال الثاني : أنهم لو خافوا أن يحيف الله عليهم فقد ارتابوا في الدين ، وإذ ارتابوا ففي قلوبهم مرض ، فالكل واحد ، فأي فائدة في التعديد ؟ الجواب : قوله : ( أفي قلوبهم مرض ) إشارة إلى النفاق . وقوله : ( أم ارتابوا ) إشارة إلى أنه حدث هذا الشك والريب بعد تقرير الإسلام في القلب ، وقوله : ( أم يخافون أن يحيف الله عليهم ) إشارة إلى أنهم . بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه
السؤال الثالث : هب أن هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة "أم" ؟ الجواب : [ ص: 20 ] الأقرب أنه تعالى ذمهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق ، وكان فيها شك وارتياب ، وكانوا يخافون الحيف من الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق ، ثم بين تعالى بقوله : ( بل أولئك هم الظالمون ) بطلان ما هم عليه لأن الظلم يتناول كل معصية كما قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [لقمان : 13] إذ ، ويمكن أن يقال أيضا لما ذكر تعالى في الأقسام كونهم خائفين من الحيف ، أبطل ذلك بقوله : ( المرء لا يخلو من أن يكون ظالما لنفسه أو ظالما لغيره بل أولئك هم الظالمون ) أي لا يخافون أن يحيف الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم لمعرفتهم بأمانته وصيانته ، وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم وهم له جحود ، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأبون المحاكمة إليه .