الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( والذين لم يبلغوا الحلم منكم ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ ابن عمر "الحلم" بالسكون .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ . واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها ، وفي الجارية سبع عشرة سنة ، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الغلام والجارية خمس عشرة سنة ، قال أبو بكر الرازي قوله تعالى : ( والذين لم يبلغوا الحلم منكم ) يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة إذا لم يحتلم ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة : " رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم " ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها ، فإن قيل : فهذا الكلام يبطل التقدير أيضا بثماني عشرة سنة . أجاب بأنا قد علمنا بأن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة ، وكل ما كان مبنيا على طريق العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه ، وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة ، وقد بينا أن الزيادة على المعتاد جائزة كالنقصان منه ، فجعل أبو حنيفة رحمه الله الزيادة كالنقصان ، وهي ثلاث سنين ، وقد [ ص: 27 ] حكي عن أبي حنيفة رحمه الله تسع عشرة سنة للغلام ، وهو محمول على استكمال ثماني عشرة سنة والدخول في التاسعة عشرة .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة الشافعي رحمه الله ما روى ابن عمر أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه ، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه ، اعترض أبو بكر الرازي عليه فقال : هذا الخبر مضطرب لأن أحدا كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يكون بينهما سنة ؟ ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ ؛ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ، ويؤذن غير البالغ لقوته ولطاقته حمل السلاح ، ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما سأله عن الاحتلام والسن .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : اختلفوا في الإنبات هل يكون بلوغا ، فأبو حنيفة وأصحابه ما جعلوه بلوغا ، والشافعي رحمه الله جعله بلوغا ، قال أبو بكر الرازي رحمه الله : ظاهر قوله : ( والذين لم يبلغوا الحلم منكم ) ينفي أن يكون الإنبات بلوغا إذا لم يحتلم كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغا ، وكذلك قوله عليه السلام : وعن الصبي حتى يحتلم

                                                                                                                                                                                                                                            حجة الشافعي رحمه الله تعالى ما روى عطية القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت ، قال : فنظروا إلي فلم أكن قد أنبت فاستبقاني .

                                                                                                                                                                                                                                            قال أبو بكر الرازي : هذا الحديث لا يجوز إثبات الشرع به وبمثله لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر لا سيما مع اعتراضه على الآية ، والخبر في نفي البلوغ إلا بالاحتلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه مختلف الألفاظ ، ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه الموسى ، وفي بعضها من اخضر عذاره ، ومعلوم أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه ولا يكون قد جرت عليه الموسى إلا وهو رجل كبير ، فجعل الإنبات وجري الموسى عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا من السن وهي ثماني عشرة سنة فأكثر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الإنبات يدل على القوة البدنية فالأمر بالقتل لذاك لا للبلوغ ، قال الشافعي رحمه الله : هذه الاحتمالات مردودة بما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سئل عن غلام ، فقال : هل اخضر عذاره ؟ وهذا يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : ويروى عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار ، روي عن علي عليه السلام أنه قال : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه ، وعن ابن سيرين عن أنس قال : أتي أبو بكر بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه ، وهذا المذهب أخذ به الفرزدق في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                            ما زال مذ عقدت يداه إزاره وسما فأدرك خمسة الأشبار



                                                                                                                                                                                                                                            وأكثر الفقهاء لا يقولون بهذا المذهب ، لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلا ، وفوق البلوغ ويكون قصيرا فلا عبرة به .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية