المسألة الرابعة : لا نزاع أن المراد من العبد ههنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن الزبير على عباده وهم رسول الله وأمته كما قال : ( لقد أنزلنا إليكم ) [الأنبياء : 10] ، ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ) [البقرة : 136] ، وقوله : ( ليكون للعالمين نذيرا ) فالمراد ليكون هذا العبد نذيرا للعالمين ، وقول من قال : إنه راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله : ( إن هذا القرآن يهدي ) [الإسراء : 9] فبعيد ؛ وذلك لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف ، وإذا وصف به القرآن فهو مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب . ثم قالوا هذه الآية تدل على أحكام :
الأول : أن العالم كل ما سوى الله تعالى ويتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة ، لكنا أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولا إلى الملائكة فوجب أن يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعا ، ويبطل بهذا قول من قال إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض .
الثاني : أن لفظ ( للعالمين ) يتناول جميع المخلوقات فدلت الآية على أنه رسول للخلق إلى يوم القيامة ، فوجب أن يكون . خاتم الأنبياء والرسل
الثالث : قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه سبحانه أراد الإيمان وفعل الطاعات من الكل ، لأنه إنما بعثه إلى الكل ليكون نذيرا للكل ، وأراد من الكل الاشتغال بالحسن والإعراض عن القبيح وعارضهم أصحابنا بقوله تعالى : ( ولقد ذرأنا لجهنم ) . [الأعراف : 179] الآية .
الرابع : لقائل أن يقول : إن قوله ( تبارك ) كما دل على كثرة الخير والبركة لا بد وأن يكون المذكور عقيبه ما يكون سببا لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم والخوف ، فكيف يليق هذا لهذا الموضع ؟ جوابه : أن هذا الإنذار يجري مجرى تأديب الولد ، وكما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر كان الإحسان إليه أكثر ، لما أن ذاك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة ، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيرا كان رجوع الخلق إلى الله أكثر ، فكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة ، وذلك لأنه سبحانه لما وصف نفسه بأنه الذي يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر البتة شيئا من منافع الدنيا .
[ ص: 41 ] ثم إنه سبحانه وصف ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء :
أولها : قوله : ( الذي له ملك السماوات والأرض ) وهذا كالتنبيه على الدلالة على وجوده سبحانه ؛ لأنه لا طريق إلى إثباته إلا بواسطة احتياج أفعاله إليه ، فكان تقديم هذه الصفة على سائر الصفات كالأمر الواجب ، وقوله : ( له ملك السماوات والأرض ) إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه بزمان حدوثها وزمان بقائها في ماهيتها وفي وجودها ، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء .
وثانيها : قوله : ( ولم يتخذ ولدا ) فبين سبحانه أنه هو المعبود أبدا ، ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه ، فتكون هذه الصفة كالمؤكدة لقوله : ( تبارك ) ولقوله : ( الذي له ملك السماوات والأرض ) وهذا كالرد على النصارى .
وثالثها : قوله : ( ولم يكن له شريك في الملك ) والمراد أنه هو المنفرد بالإلهية ، وإذا عرف العبد ذلك انقطع خوفه ورجاؤه عن الكل ، ولا يبقى مشغول القلب إلا برحمته وإحسانه . وفيه الرد على الثنوية ، والقائلين بعبادة النجوم ، والقائلين بعبادة الأوثان .
ورابعها : قوله : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) وفيه سؤالات :
الأول : هل في قوله : ( وخلق كل شيء ) دلالة على ؟ والجواب : نعم من وجهين : أنه سبحانه خالق لأعمال العباد
الأول : أن قوله : ( وخلق كل شيء ) يتناول جميع الأشياء فيتناول أفعال العباد .
والثاني : وهو أنه تعالى بعد أن نفى الشريك ذكر ذلك ، والتقدير أنه سبحانه لما نفى الشريك كأن قائلا قال : ههنا أقوام يعترفون بنفي الشركاء والأنداد ، ومع ذلك يقولون إنهم يخلقون أفعال أنفسهم . فذكر الله تعالى هذه الآية لتكون معينة في الرد عليهم ، قال القاضي : الآية لا تدل عليه لوجوه :
أحدها : أنه سبحانه صرح بكون العبد خالقا في قوله : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ) [المائدة : 110] وقال : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) [المؤمنون : 14] .
وثانيها : أنه سبحانه تمدح بذلك فلا يجوز أن يريد به خلق الفساد .
وثالثها : أنه سبحانه تمدح بأنه قدره تقديرا ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا بد من التأويل لو دلت الآية بظاهرها عليه ، فكيف ولا دلالة فيها البتة ، لأن الخلق عبارة عن التقدير ، فهو لا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير ، وذلك إنما يظهر في الأجسام لا في الأعراض . والجواب :
أما قوله : ( وإذ تخلق ) وقوله : ( أحسن الخالقين ) فهما معارضان بقوله : ( الله خالق كل شيء ) [الزمر : 62] وبقوله : ( هل من خالق غير الله ) [فاطر : 3] وأما قوله : لا يجوز التمدح بخلق الفساد ، قلنا لم لا يجوز أن يقع التمدح به نظرا إلى تقادير القدرة وإلى أن صفة الإيجاد من العدم والإعدام من الوجود ليست إلا له ؟ وأما قوله : الخلق لا يتناول إلا الأجسام ، فنقول : لو كان كذلك لكان قوله ( وخلق كل شيء ) خطأ لأنه يقتضي إضافة الخلق إلى جميع الأشياء ، مع أنه لا يصح في العقل إضافته إليها .
السؤال الثاني : في الخلق معنى التقدير فقوله : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) معناه : وقدر كل شيء فقدره تقديرا . والجواب : المعنى أحدث كل شيء إحداثا يراعي فيه التقدير والتسوية ، فقدره تقديرا وهيأه لما يصلح له ، مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المستوي الذي تراه ، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في باب الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير فقدره لأمر ما ، ومصلحة ما ، مطابقا لما قدر غير متخلف عنه .
السؤال الثالث : هل في قوله : ( فقدره تقديرا ) دلالة على مذهبكم ؟
الجواب : نعم ، وذلك من وجوه :
[ ص: 42 ] أحدها : أن التقدير في حقنا يرجع إلى الظن والحسبان ، أما في حقه سبحانه فلا معنى له إلا العلم به والإخبار عنه ، وذلك متفق عليه بيننا وبين المعتزلة ، فلما علم في الشيء الفلاني أنه لا يقع ، فلو وقع ذلك الشيء لزم انقلاب علمه جهلا وانقلاب خبره الصدق كذبا ، وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فإذن وقوع ذلك الشيء محال ، والمحال غير مراد فذلك الشيء غير مراد وإنه مأمور به ، فثبت أن الأمر والإرادة لا يتلازمان ، وظهر أن السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه .
وثانيها : أنه عند حصول القدرة والداعية الخالصة إن وجب الفعل ، كان فعل العبد يوجب فعل الله تعالى ، وحينئذ يبطل قول المعتزلة ، وإن لم يجب فإن استغنى عن المرجح فقد وقع الممكن لا عن مرجح ، وتجويزه يسد باب إثبات الصانع وإن لم يستغن عن المرجح ، فالكلام يعود في ذلك المرجح ، ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى واجب الوجود .
وثالثها : أن فعل العبد لو وقع بقدرته لما وقع إلا الشيء الذي أراد تكوينه وإيجاده ، لكن الإنسان لا يريد إلا العلم والحق ، فلا يحصل له إلا الجهل والباطل ، فلو كان الأمر بقدرته لما كان كذلك ، فإن قيل : إنما كان لأنه اعتقد شبهة أوجبت له ذلك الجهل ، قلنا : إن اعتقد تلك الشبهة لشبهة أخرى لزم التسلسل وهو محال ، فلا بد من الانتهاء إلى جهل أول ، ووقع في قلب الإنسان لا بسبب جهل سابق ، بل الإنسان أحدثه ابتداء من غير موجب ، وذلك محال لأن الإنسان قط لا يرضى لنفسه بالجهل ولا يحاول تحصيل الجهل لنفسه ، بل لا يحاول إلا العلم ، فوجب أن لا يحصل له إلا ما قصده وأراده ، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الكل بقضاء سار وقدر نافذ ، وهو المراد من قوله : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) .