أما قوله تعالى : ( يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا ) فهو جواب لقولهم : ( لولا أنزل علينا الملائكة ) فبين تعالى أن الذي سألوه سيوجد ، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون . وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في انتصاب " يوم " وجهين :
الأول : أن العامل ما دل عليه " لا بشرى " أي يوم يرون الملائكة يبغون البشرى ، ويومئذ للتكرير .
الثاني : أن التقدير : اذكر يوم يرون الملائكة .
[ ص: 62 ] المسألة الثانية : اختلفوا في ذلك اليوم ، فقال : يريد عند الموت ، وقال الباقون : يريد يوم القيامة . ابن عباس
المسألة الثالثة : إنما يقال للكافر : لا بشرى لأن الكافر وإن كان ضالا مضلا إلا أنه يعتقد في نفسه أنه كان هاديا مهتديا ، فكان يطمع في ذلك الثواب العظيم ، ولأنهم ربما عملوا ما رجوا فيه النفع كنصرة المظلوم وعطية الفقير وصلة الرحم ، ولكنه أبطلها بكفره ، فبين سبحانه أنهم في أول الأمر يشافهون بما يدل على نهاية اليأس والخيبة ، وذلك هو النهاية في الإيلام ، وهو المراد من قوله : ( وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) [الزمر : 47] .
المسألة الرابعة : حق الكلام أن يقال : يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم ، لكنه قال : لا بشرى للمجرمين ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ظاهر في موضع ضمير .
والثاني : أنه عام ، فقد تناولهم بعمومه ، قالت المعتزلة : تدل الآية على القطع وعدم العفو ؛ لأن قوله : ( بوعيد الفساق لا بشرى يومئذ ) نكرة في سياق النفي ، فيعم جميع أنواع البشرى في جميع الأوقات ، بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال : بل له بشرى في الوقت الفلاني ، فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية ، علمنا أن قوله تعالى : ( لا بشرى ) يقتضي نفي جميع أنواع البشرى في كل الأوقات ، ثم إنه سبحانه أكد هذا النفي بقوله : ( حجرا محجورا ) ، والعفو من الله من أعظم البشرى ، والخلاص من النار بعد دخولها من أعظم البشرى ، من أعظم البشرى ، فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين ، والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم غير مرة ، قال المفسرون : المراد بالمجرمين ههنا الكفار ؛ بدليل قوله : ( وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ) [المائدة : 72] .
المسألة الخامسة : في تفسير قوله : ( حجرا محجورا ) ذكر في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها ، نحو معاذ الله وقعدك الله ، وعمرك الله ، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة ، قال سيبويه : يقول الرجل للرجل يفعل كذا وكذا فيقول : حجرا ، وهي من حجره إذا منعه ؛ لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه ، فكان المعنى : أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا . ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة سيبويه الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد ، فإن قيل : لما ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بكونه محجورا ؟ قلنا : جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا : ذبل ذابل . فالذبل الهوان ، وموت مائت وحرام محرم .
المسألة السادسة : اختلفوا في أن الذين يقولون : حجرا محجورا من هم ؟ على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنهم هم الكفار ؛ وذلك لأنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه ، ثم إذا رأوهم عند الموت ويوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم ؛ لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون ، فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو الموتور ونزول الشدة .
القول الثاني : أن القائلين هم الملائكة ، ومعناه : حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى ، أي جعل الله ذلك حراما عليكم ، ثم اختلفوا على هذا القول ، فقال بعضهم : إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم ، قالت الحفظة لهم : حجرا محجورا ، وقال الكلبي : ، وقال الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين : حجرا محجورا عطية : إذا كان يوم القيامة يلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى [ ص: 63 ] فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم : بشرونا . فيقولون : حجرا محجورا .
القول الثالث : وهو قول القفال والواحدي ، وروي عن الحسن أن الكفار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيتعوذون منه ويقولون : حجرا محجورا ، فتقول الملائكة : لا يعاذ من شر هذا اليوم .