( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) .
اعلم أن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إلى الله تعالى وقال : ( يارب إن قومي اتخذوا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أكثر المفسرين أنه قول واقع من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو مسلم : بل المراد أن الرسول عليه السلام يقوله في الآخرة ، وهو كقوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [النساء : 41] والأول أولى ؛ لأنه موافق للفظ ، ولأن ما ذكره الله تعالى من قوله : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) [الفرقان : 31] تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يليق إلا إذا كان وقع ذلك القول منه .
المسألة الثانية : ذكروا في المهجور قولين :
الأول : أنه من الهجران ، أي : تركوا الإيمان به ولم يقبلوه وأعرضوا عن استماعه .
الثاني : أنه من أهجر أي مهجورا فيه ، ثم حذف الجار ، ويؤكده قوله تعالى : ( مستكبرين به سامرا تهجرون ) [المؤمنون : 67] ثم هجرهم فيه أنهم كانوا يقولون : إنه سحر وشعر وكذب وهجر ؛ أي هذيان ، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب العالمين ، عبدك هذا اتخذني مهجورا ، اقض بيني وبينه" تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعهده ثم إنه تعالى قال مسليا لرسوله عليه الصلاة والسلام ومعزيا له : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) وبين بذلك أن له أسوة بسائر الرسل ، فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ، ثم فيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر ؛ لأن قوله تعالى : ( جعلنا لكل نبي عدوا ) يدل على أن تلك العداوة من جعل الله ، ولا شك أن تلك العداوة كفر ، قال الجبائي : المراد من الجعل التبيين ؛ فإنه تعالى لما بين أنهم أعداؤه ، جاز أن يقول : جعلناهم أعداءه ، كما إذا بين الرجل أن فلانا [ ص: 68 ] لص ، يقال : جعله لصا كما يقال في الحاكم : عدل فلانا وفسق فلانا وجرحه ، قال الكعبي : إنه تعالى لما أمر الأنبياء بعداوة الكفار ، وعداوتهم للكفار تقتضي عداوة الكفار لهم ، فلهذا جاز أن يقول : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) ؛ لأنه سبحانه هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة ، وقال أبو مسلم : يحتمل في العدو أنه البعيد لا القريب ؛ إذ المعاداة المباعدة ، كما أن النصر القرب والمظاهرة ، وقد باعد الله تعالى بين المؤمنين والكافرين .
والجواب عن الأول : أن التبيين لا يسمونه البتة جعلا ؛ لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال : إنه جعل الصانع وجعل قدمه .
والجواب عن الثاني : أن الذي أمره الله تعالى به هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم أو ليس له تأثير ؟ فإن كان الأول فقد تم الكلام ؛ لأن عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم كفر ، فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة فقد أمره بما له أثر في وقوع الكفر ، وإن لم يكن فيه تأثير البتة كان منقطعا عنه بالكلية ، فيمتنع إسناده إليه ، وهذا هو الجواب عن قول أبي مسلم .
المسألة الثانية : لقائل أن يقول إن قول محمد عليه السلام : ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) في المعنى كقول نوح عليه السلام : ( رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) [نوح : 5 ، 6] وكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا ههنا ، فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107] ؟ جوابه : أن نوحا عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم ، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فلما ذكر هذا ما دعا عليهم ، بل انتظر ، فلما قال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ) كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم ، فظهر الفرق .
المسألة الثالثة : قوله " جعلنا " صيغة العظماء ، والعظيم إذا ذكر نفسه في كل معرض من التعظيم وذكر أنه يعطي فلا بد وأن تكون تلك العطية عظيمة ؛ كقوله : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) [الحجر : 87] ، وقوله : ( إنا أعطيناك الكوثر ) [الكوثر : 1] فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا ؟ وجوابه : أن خلق العداوة سبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : يجوز أن يكون العدو واحدا وجمعا ؛ كقوله : ( فإنهم عدو لي ) [الشعراء : 77] وجاء في التفسير أن عدو الرسول صلى الله عليه وسلم أبو جهل .
أما قوله : ( وكفى بربك هاديا ونصيرا ) فقال الزجاج : الباء زائدة ، يعني كفى ربك ، وهاديا ونصيرا منصوبان على الحال ، هاديا إلى مصالح الدين والدنيا ، ونصيرا على الأعداء ، ونظيره ( ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) . [ الأنفال : 64] .