( قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون )
قوله تعالى ( قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ) [ ص: 213 ]
اعلم أنه تعالى لما قال : ( فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ) تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه ، فعند ذلك طلب من الله تعالى ما يقوي قلبه ويزيل خوفه ، فقال : ( رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ) لأنه كان في لسانه حبسة ؛ إما في أصل الخلقة ، وإما لأجل أنه وضع الجمرة في فيه عندما نتف لحية فرعون .
أما قوله : ( فأرسله معي ردءا يصدقني ) ففيه أبحاث :
البحث الأول : ، فعل بمعنى مفعول به ، كما أن الدفء اسم لما يدفأ به ، يقال : ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشب أو غيره لئلا يسقط . الردء اسم ما يستعان به
البحث الثاني : قرأ نافع ردءا بغير همز والباقون بالهمز ، وقرأ عاصم وحمزة يصدقني برفع القاف ، ويروى ذلك أيضا عن أبي عمرو والباقون بجزم القاف ، وهو المشهور عن أبي عمرو ، فمن رفع فالتقدير : ردءا مصدقا لي ، ومن جزم كان على معنى الجزاء ، يعني : إن أرسلته صدقني ، ونظيره قوله : ( فهب لي من لدنك وليا يرثني ) ( مريم : 5 - 6 ) بجزم الثاء من يرثني . وروى السدي عن بعض شيوخه ردءا كيما يصدقني .
البحث الثالث : الجمهور على أن التصديق لهارون ، وقال مقاتل : المعنى كي يصدقني فرعون ، والمعنى : أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان ، فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون .
البحث الرابع : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له : صدقت ، أو يقول للناس : صدق موسى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ، ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ، ألا ترى إلى قوله : ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ) وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله : صدقت .
البحث الخامس : قال الجبائي : إنما سأل موسى عليه السلام أن يرسل هارون بأمر الله تعالى وإن كان لا يدري هل يصلح هارون للبعثة أم لا ؟ فلم يكن ليسأل ما لا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة ، ويحتمل أيضا أن يقال : إنه سأله لا مطلقا بل مشروطا على معنى ، إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقوله الداعي في دعائه .
البحث السادس : قال السدي : إن نبيين وآيتين أقوى من نبي واحد وآية واحدة . قال القاضي : والذي قاله من جهة العادة أقوى ، فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين ؛ لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم ، وإن لم ينظر فالحالة واحدة ، هذا إذا كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة ، فأما إذا اختلفت وأمكن في إحداهما إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى ، فغير ممتنع أن يختلفا ، ويصلح عند ذلك أن يقال : إنهما بمجموعهما أقوى من إحداهما على ما قاله السدي . لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون عليهما السلام ؛ لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة .
[ ص: 214 ] أما قوله : ( سنشد عضدك بأخيك ) فاعلم أن العضد قوام اليد وبشدتها تشتد ، يقال في دعاء الخير : شد الله عضدك ، وفي ضده : فت الله في عضدك . ومعنى سنشد عضدك بأخيك : سنقويك به ، فإما أن يكون ذلك لأن اليد تشتد لشدة العضد ، والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور ، وإما لأن الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد ، فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة .
أما قوله : ( ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ) فالمقصود أن الله تعالى آمنه مما كان يحذر ، فإن قيل : بين تعالى أن السلطان هو بالآيات ، فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات ، أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة ، وإن كانت هذه الآيات ظاهرة ، قلنا : إن الآية التي هي قلب العصا حية كما أنها معجزة ، فهي أيضا تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما السلام ؛ لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما ، فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره ، وصارت آية ومعجزة ، فجمعت بين الأمرين . فأما ففيه خلاف ، فمنهم من قال : ما صلبوا ، وليس في القرآن ما يدل عليه ، وإن سلمنا ذلك ، ولكنه تعالى قال : ( صلب السحرة فلا يصلون إليكما ) فالمنصوص أنهم لا يقدرون على إيصال الضرر إليهما ، وإيصال الضرر إلى غيرهما لا يقدح فيه ، ثم قال : ( أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) والمراد إما الغلبة بالحجة والبرهان في الحال ، أو الغلبة في الدولة والمملكة في ثاني الحال ، والأول أقرب إلى اللفظ .
أما قوله : ( فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات ) فقد بينا في سورة طه أنه كيف أطلق لفظ الآيات وهو جمع على العصا واليد .
أما قوله : ( قالوا ما هذا إلا سحر مفترى ) فقد اختلفوا في مفترى ، فقال بعضهم : المراد أنه إذا كان ، وقال سحرا وفاعله يوهم خلافه فهو المفترى الجبائي : المراد أنه منسوب إلى الله تعالى وهو من قبله ، فكأنهم قالوا : هو كذب من هذا الوجه ، ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم ، وهو قولهم : ( وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) أي ما حدثنا بكونه فيهم ، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا مثله ، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته ، أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى عليه السلام ومجيئه بما جاء به .
واعلم أن هذه الشبهة ساقطة ؛ لأن حاصلها يرجع إلى التقليد ، ولأن حال الأولين لا يخلو من وجهين : إما أن لا يورد عليهم بمثل هذه الحجة فحينئذ الفرق ظاهر ، أو أورد عليهم فدفعوه ، فحينئذ لا يجوز جعل جهلهم وخطئهم حجة ، فعند ذلك قال موسى عليه السلام وقد عرف منهم العناد : ( ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار ) فإن من أظهر الحجة ، ولم يجد من الخصم اعتراضا عليها ، وإنما لما وجد منه العناد صح أن يقول : ربي أعلم بمن معه الهدى والحجة منا جميعا ، ومن هو على الباطل ، ويضم إليه طريق الوعيد والتخويف ، وهو قوله : ( ومن تكون له عاقبة الدار ) من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب ، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة ، والدليل عليه قوله تعالى : ( أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن ) [ الرعد : 22 - 23] وقوله : ( وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ) [ الرعد : 42 ] أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت ، فإن قيل : العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار ؛ لأن الدنيا قد تكون خاتمتها بخير في حق البعض وبشر في حق البعض الآخر ، فلم [ ص: 215 ] اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر ؟ قلنا : إنه قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازا إلى الآخرة ، وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق ، فمن عمل فيها خلاف ما وضعها الله له فقد حرف ، فإذن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير ، وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها ؛ لأنها من نتائج تحريف الفجار ، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله : ( والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقباها بآياته إنه لا يفلح الظالمون ) والمراد أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع بل يحصلون على ضد ذلك ، وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم .