المسألة السادسة : اتفقوا على بوجوه : وقوع النسخ في القرآن
أحدها : هذه الآية وهي قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ، أجاب أبو مسلم عنه بوجوه :
الأول : أن المراد من ، كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب ، مما وضعه الله تعالى عنا وتعبدنا بغيره ، فإن الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل اليهود والنصارى كانوا يقولون : " لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " ، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية .
الوجه الثاني : المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب ، وهو كما يقال نسخت الكتاب .
الوجه الثالث : أنا بينا أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه ، ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأول بأن الآيات إذا أطلقت فالمراد [ ص: 208 ] بها آيات القرآن ؛ لأنه هو المعهود عندنا .
وعن الثاني : بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن ، وهذا النسخ مختص ببعضه ، ولقائل أن يقول على الأول : لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن ، بل هو عام في جميع الدلائل ، وعلى الثاني : لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن ، بل التقدير والله أعلم : ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنا نأتي بعده بما هو خير منه .
الحجة الثانية للقائلين بوقوع النسخ في القرآن : أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا ، وذلك في قوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ) [ البقرة : 240 ] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] قال أبو مسلم : الاعتداد بالحول ما زال بالكلية ؛ لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا ناسخا ، والجواب : أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل ، سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر ، فجعل السنة العدة يكون زائلا بالكلية .
الحجة الثالثة : أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) [ المجادلة : 12 ] ثم نسخ ذلك ، قال أبو مسلم : إنما زال ذلك لزوال سببه ؛ لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين ، فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد . والجواب : لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقا ، وهو باطل ؛ لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي - رضي الله عنه - ويدل عليه قوله تعالى : ( فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ) [ المجادلة : 13 ] .
الحجة الرابعة : أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 65 ] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 66 ] .
الحجة الخامسة : قوله تعالى : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) [ البقرة : 142 ] ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) [ البقرة : 144 ] . قال أبو مسلم : حكم تلك القبلة ما زال بالكلية ، لجواز التوجه إليها عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر . الجواب : أن على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات ، فالخصوصية التي بها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخا .
الحجة السادسة : قوله تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ) [ النحل : 101 ] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم ، فكيف كان فهو رفع ونسخ ، وإنما أطنبنا في هذه الدلائل ؛ لأن كل واحد منها يدل على وقوع النسخ في الجملة ، واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل . والجواب : أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ، ولا يأتيه من بعده أيضا ما يبطله .