[ ص: 38 ]
النوع الخامس من الحجة : أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) [المائدة : 91] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر ، وهذا التعليل يقيني ، فعلى هذا تكون هذه الآية نصا في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة ، فأما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر ، وكل من أنصف وترك العناد ، علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب .
حجة رحمه الله من وجوه : أبي حنيفة
أحدها : قوله تعالى : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) [النحل : 67] ، وما نحن فيه سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحا ; لأن المنة لا تكون إلا بالمباح . من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن
والحجة الثانية : ما روى ابن عباس العباس : ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا ؟ فقال : ما تسقي الناس ؟ فجاءه بقدح من نبيذ فشمه ، فقطب وجهه ورده ، فقال العباس : يا رسول الله ، أفسدت على أهل مكة شرابهم . فقال : ردوا علي القدح ، فردوه عليه ، فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب ، وقال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا نتنها بالماء . أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها وقال : اسقوني ، فقال
وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد ؛ ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص ، ولأن اغتلام الشراب شدته ، كاغتلام البعير سكره .
الحجة الثالثة : . التمسك بآثار الصحابة
والجواب عن الأول : أن قوله تعالى : ( تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) [النحل : 67] نكرة في الإثبات ، فلم قلتم : إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ ؟ ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر ، فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة ، أو مخصصة لها .
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماء نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلا إلى الحموضة ، وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم ، فلذلك قطب وجهه ، وأيضا كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القدر من الحموضة أو الرائحة ، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز .
وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة ، فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام ، فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر .
المقام الثاني : في بيان أن هذه الآية دالة على ، وبيانه من وجوه : تحريم الخمر
الأول : أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم ، والإثم حرام ؛ لقوله تعالى : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي ) [الأعراف : 33] فكان مجموع هاتين الآيتين دليلا على تحريم الخمر .
الثاني : أن ، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم . الإثم قد يراد به العقاب ، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب
الثالث : أنه تعالى قال : ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) صرح برجحان الإثم والعقاب ، وذلك يوجب التحريم . [ ص: 39 ]
فإن قيل : الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم ، بل تدل على أن فيه إثما ، فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم : إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراما ؟
قلنا : لأن السؤال كان واقعا عن مطلق الخمر ، فلما بين تعالى أن فيه إثما ، كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات ، فكان شرب الخمر مستلزما لهذه الملازمة المحرمة ، ومستلزم المحرم محرم ، فوجب أن يكون الشرب محرما ، ومنهم من قال : هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر ، واحتج عليه بوجوه :
أحدها : أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس ، والمحرم لا يكون فيه منفعة .
والثاني : لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة ؟
الثالث : أنه تعالى أخبر أن فيهما إثما كبيرا فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلا ما داما موجودين ، فلو كان ذلك الإثم الكبير سببا لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع .
والجواب عن الأول : أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع من كونه محرما ، ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعا من حرمتهما ; لأن صدق الخاص يوجب صدق العام .
والجواب عن الثاني : أنا روينا عن أنها نزلت في تحريم الخمر ، والتوقف الذي ذكرته غير مروي عنهم ، وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم ، كما التمس ابن عباس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكونا وطمأنينة .
والجواب عن الثالث : أن قوله : ( فيهما إثم كبير ) إخبار عن الحال لا عن الماضي ، وعندنا أن الله تعالى علم أن لهم في ذلك الزمان ، وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة . فهذا تمام الكلام في هذا الباب . شرب الخمر مفسدة