( 2187 ) مسألة : قال : ( ومن دخل المسجد قبل غروب الشمس ) وهذا قول نذر أن يعتكف شهرا بعينه ، ، مالك . وحكى والشافعي ابن أبي موسى عن رواية أخرى ، أنه يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر من أوله . وهو قول أحمد ، الليث { وزفر } . متفق عليه . لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ، ثم دخل معتكفه
ولأن الله تعالى قال : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . ولا يلزم الصوم إلا من قبل طلوع الفجر . ولأن الصوم شرط في الاعتكاف ، فلم يجز ابتداؤه قبل شرطه .
ولنا ، أنه نذر الشهر ، وأوله غروب الشمس ، ولهذا تحل الديون المعلقة به ، ويقع الطلاق والعتاق المعلقان به ، ووجب أن يدخل قبل الغروب ليستوفي جميع الشهر ، فإنه لا يمكن إلا بذلك ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، كإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم ، وأما الصوم فإن محله النهار ، فلا يدخل فيه شيء من الليل في أثنائه ولا ابتدائه ، إلا ما حصل ضرورة ، بخلاف الاعتكاف .
وأما الحديث فقال : لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به . على أن الخبر إنما هو في التطوع ، فمتى شاء دخل ، وفي مسألتنا نذر شهرا ، فيلزمه اعتكاف شهر كامل ، ولا يحصل إلا أن يدخل فيه قبل غروب الشمس من أوله ، ويخرج بعد غروبها من آخره ، فأشبه ما لو نذر اعتكاف يوم ، فإنه يلزمه الدخول فيه قبل طلوع فجره ، ويخرج بعد غروب شمسه . ( 2188 ) ابن عبد البر
فصل : وإن أحب ففيه روايتان : إحداهما ، يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين ; لما روي عن اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تطوعا ، { أبي سعيد } . متفق عليه . ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان ، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه ، قال : من كان اعتكف معي ، فليعتكف العشر الأواخر
ولأن العشر بغير هاء عدد الليالي ، فإنها عدد المؤنث ، قال الله تعالى : { وليال عشر } . وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين . [ ص: 81 ] والرواية الثانية ، يدخل بعد صلاة الصبح . قال ، قال حنبل : أحب إلي أن يدخل قبل الليل ، ولكن حديث أحمد ، { عائشة } . وبهذا قال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر ، ثم يدخل معتكفه الأوزاعي ، وإسحاق . ووجهه ما روت عمرة ، عن { عائشة } . متفق عليه . ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه
وإن نذر اعتكاف العشر ، ففي وقت دخوله الروايتان جميعا . ( 2189 )
فصل : نص عليه ومن اعتكف العشر الأواخر من رمضان ، استحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه . . وروي عن أحمد ، النخعي وأبي مجلز ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، والمطلب بن حنطب ، ، أنهم كانوا يستحبون ذلك . وروى وأبي قلابة ، بإسناده عن الأثرم أيوب ، عن ، أنه كان يبيت في المسجد ليلة الفطر ، ثم يغدو كما هو إلى العيد ، وكان - يعني في اعتكافه - لا يلقى له حصير ولا مصلى يجلس عليه ، كان يجلس كأنه بعض القوم . أبي قلابة
قال : فأتيته في يوم الفطر ، فإذا في حجره مزينة ما ظننتها إلا بعض بناته ، فإذا هي أمة له ، فأعتقها ، وغدا كما هو إلى العيد . وقال جويرية : كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان ، أن يبيت ليلة الفطر في المسجد ، ثم يغدو إلى المصلى من المسجد . ( 2190 ) إبراهيم
فصل : وإذا ، لزمه شهر بالأهلة ، أو ثلاثون يوما . وهل يلزمه . التتابع ؟ على وجهين ; بناء على الروايتين في نذر الصوم . أحدهما ، لا يلزمه . وهو مذهب نذر اعتكاف شهر ; لأنه معنى يصح فيه التفريق ، فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر ، كالصيام . والثاني ، يلزمه التتابع . وهو قول الشافعي أبي حنيفة . ومالك
وقال : يلزمه التتابع قولا واحدا ; لأنه معنى يحصل في الليل والنهار ، فإذا أطلقه اقتضى التتابع ، كما لو حلف لا يكلم زيدا شهرا ، وكمدة الإيلاء والعنة والعدة . وبهذا فارق الصيام ، فإن أتى بشهر بين هلالين ، أجزأه ذلك ، وإن كان ناقصا . وإن اعتكف ثلاثين يوما من شهرين ، جاز ، وتدخل فيه الليالي ; لأن الشهر عبارة عنهما ، ولا يجزئه أقل من ذلك . القاضي
وإن . لزمه ما نذر ، ولم يدخل فيه غيره . وكذلك إن قال : شهرا في النهار ، أو في الليل . ( 2191 ) قال : لله علي أن أعتكف أيام هذا الشهر ، أو ليالي هذا الشهر
فصل : وإن فعلى قول قال : لله علي أن أعتكف ثلاثين يوما . ، يلزمه التتابع . وقال القاضي : لا يلزمه ; لأن اللفظ يقتضي ما تناوله ، والأيام المطلقة توجد بدون التتابع ، فلا يلزمه ، كما لو أبو الخطاب . قال : لله علي أن أصوم ثلاثين يوما
فعلى قول : يدخل فيه الليالي الداخلة في الأيام المنذورة ، كما لو نذر شهرا . ومن لم يوجب التتابع لا يقتضي أن تدخل الليالي فيه ، إلا أن ينويه . فإن نوى التتابع ، أو شرطه ، لزمه ، ودخل الليل فيه ، ويلزمه ما بين الأيام من الليالي . وبه قال القاضي ، مالك . والشافعي
وقال : يلزمه من الليالي بعدد الأيام ، إذا كان على وجه الجمع والتثنية ، يدخل فيه مثله من الليالي ، والليالي تدخل معها الأيام ، بدليل قوله تعالى : { أبو حنيفة آيتك [ ص: 82 ] ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } . وقال في موضع آخر : { ثلاثة أيام إلا رمزا } .
ولنا ، أن اليوم اسم لبياض النهار ، والتثنية والجمع تكرار للواحد ، وإنما تدخل الليالي تبعا لوجوب التتابع ضمنا ، وهذا يحصل بما بين الأيام خاصة ، فاكتفي به . وأما الآية فإن الله تعالى نص على الليل في موضع والنهار في موضع ، فصار منصوصا عليهما . فإن نذر اعتكاف يومين متتابعين ، لزمه يومان وليلة بينهما .
وإن نذر اعتكاف يومين مطلقا ، فعلى قول ، هو كما لو نذرهما متتابعين . وكذلك لو نذر ليلتين ، لزمه اليوم الذي بينهما ، وعلى قول القاضي لا يلزمه التتابع ، ولا ما بينهما ، إلا بلفظه أو نيته . ( 2192 ) أبي الخطاب
فصل : لم يجز تفريقه ، ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر ، ويخرج منه بعد غروب الشمس . وقال وإن نذر اعتكاف يوم ، : يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم ، كقولنا في الشهر ; لأن الليل يتبع النهار ، بدليل ما لو كان متتابعا . مالك
ولنا ، أن الليلة ليست من اليوم ، وهي من الشهر . قال : اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس . وإنما دخل الليل في المتتابع ضمنا ، ولهذا خصصناه بما بين الأيام . الخليل
وإن نذر اعتكاف ليلة ، لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ، ويخرج منه بعد طلوع الفجر ، وليس له تفريق الاعتكاف . وقال : له تفريقه . هذا ظاهر كلامه ، قياسا على تفريق الشهر . الشافعي
ولنا ، أن إطلاق اليوم يفهم منه التتابع ، فيلزمه ، كما لو قال : متتابعا . وفارق الشهر ، فإنه اسم لما بين الهلالين ، واسم لثلاثين يوما ، واسم لغير ذلك ، واليوم لا يقع في الظاهر إلا على ما ذكرنا .
وإن . لزمه الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله ، ويدخل فيه الليل ; لأنه في خلال نذره ، فصار كما لو نذر يومين متتابعين ، وإنما لزمه بعض يومين لتعيينه ذلك بنذره ، فعلمنا أنه أراد ذلك ، ولم يرد يوما صحيحا . ( 2193 ) قال في وسط النهار : لله علي أن أعتكف يوما من وقتي هذا
فصل : وإن ، لزمه ما يسمى به معتكفا ، ولو ساعة من ليل أو نهار ، إلا على قولنا بوجوب الصوم في الاعتكاف ، فيلزمه يوم كامل ، فأما اللحظة ، وما لا يسمى به معتكفا ، فلا يجزئه ، على الروايتين جميعا . ( 2194 ) نذر اعتكافا مطلقا
فصل : ، إلا المساجد الثلاثة ، وهي ولا يتعين شيء من المساجد بنذره الاعتكاف فيه المسجد الحرام ، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { المسجد الحرام ، ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا } . متفق عليه . لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد :
ولو تعين غيرها بتعيينه ، لزمه المضي إليه ، واحتاج إلى شد الرحال لقضاء نذره فيه ، ولأن الله تعالى لم يعين لعبادته مكانا ، فلم يتعين بتعيين غيره . وإنما تعينت هذه [ ص: 83 ] المساجد الثلاثة للخبر الوارد فيها ، ولأن العبادة فيها أفضل ، فإذا عين ما فيه فضيلة ، لزمته ، كأنواع العبادة .
وبهذا قال في صحيح قوليه . وقال في الآخر : لا يتعين الشافعي المسجد الأقصى ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال { المسجد الحرام } . رواه : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا . مسلم
وهذا يدل على التسوية ، فيما عدا هذين المسجدين . لأن المسجد الأقصى لو فضلت الصلاة فيه على غيره للزم أحد أمرين ; إما خروجه من عموم هذا الحديث ، وإما كون فضيلته بألف مختصا بالمسجد الأقصى .
ولنا ، أنه من المساجد التي تشد الرحال إليها ، فتعين بالتعيين في النذر ، كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكروه لا يلزم ، فإنه إذا فضل الفاضل بألف ، فقد فضل المفضول بها أيضا . ( 2195 )
فصل : وإن المسجد الحرام ، لم يكن له الاعتكاف فيما سواه ; لأنه أفضلها ، ولأن نذر الاعتكاف في { عمر المسجد الحرام في الجاهلية ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أوف بنذرك } . متفق عليه . نذر أن يعتكف ليلة في
وإن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، جاز له أن يعتكف في نذر أن يعتكف في المسجد الحرام ; لأنه أفضل منه ، ولم يجز أن يعتكف في المسجد الأقصى ; لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه . وقال قوم : مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الحرام ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفن في خير البقاع ، وقد نقله الله تعالى من مكة إلى المدينة ، فدل على أنها أفضل .
ولنا ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { المسجد الحرام } . وروي في خبر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فيما سواه } . رواه : صلاة في . فيدخل في عمومه ابن ماجه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فتكون الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة فيما سوى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . فأما إن المسجد الأقصى ، جاز له أن يعتكف في المسجدين الآخرين ; لأنهما أفضل منه . نذر الاعتكاف في
وقد روى الإمام ، في ( مسنده ) ، عن رجال من الأنصار ، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { أحمد مكة ، لأصلين في بيت المقدس ، وإني وجدت رجلا من أهل الشام هاهنا في قريش ، مقبلا معي ومدبرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاهنا فصل . فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات ، كل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : هاهنا فصل . ثم قال الرابعة مقالته هذه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اذهب ، فصل فيه ، فوالذي بعث محمدا بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس } . ، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، والنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس قريبا من المقام ، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا نبي الله ، إني نذرت لئن فتح الله للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
ومتى نذر الاعتكاف في غير هذه المساجد ، فانهدم معتكفه ، ولم يمكن المقام فيه ، لزمه إتمام الاعتكاف في غيره ، ولم يبطل اعتكافه . ( 2196 )
فصل : إذا . صح نذره ، فإن ذلك ممكن ، فإن قدم في بعض النهار ، لزمه اعتكاف الباقي منه ، ولم يلزمه قضاء ما فات ; لأنه فات قبل شرط الوجوب ، فلم يجب ، كما لو نذر اعتكاف زمن ماض . لكن إذا قلنا : شرط صحة الاعتكاف الصوم . لزمه قضاء يوم كامل ; لأنه لا يمكنه أن يأتي [ ص: 84 ] بالاعتكاف في الصوم فيما بقي من النهار ، ولا قضاؤه متميزا مما قبله ، فلزمه يوم كامل ضرورة ، كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان . نذر اعتكاف يوم يقدم فلان
ويحتمل أن يجزئه اعتكاف ما بقي منه إذا كان صائما ; لأنه قد وجد اعتكاف مع الصوم . وإن قدم ليلا ، لم يلزمه شيء ; لأن ما التزمه بالنذر لم يوجد . فإن كان للناذر عذر يمنعه الاعتكاف عند قدوم فلان من حبس ، أو مرض ، قضى وكفر ; لفوات النذر في وقته ، ويقضي بقية اليوم فقط ، على حسب ما كان يلزم في الأداء ، في الرواية المنصورة ، وفي الأخرى ، يقضي يوما كاملا ، بناء على اشتراط الصوم في الاعتكاف .