تقديم بقلم: الأستاذ عمر عبيد حسنة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
الحمد لله القائل في محكم آياته: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) (الحشر:7) . وبعد: [ ص: 7 ] فهذا الكتاب السابع في سلسلة (كتاب الأمة) ، التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية: (التخلف والحرمان في ديار المسلمين) : للدكتور نبيل صبحي الطويل ، يأتي مساهمة منه في تحقيق الوعي الثقافي الإسلامي إلى جانب العطاء الصحفي، وتبصير المسلمين بمشكلاتهم، وإغناء مسلم اليوم بالرؤية الشمولية عن عالم المسلمين، وبيان الثغور المفتوحة التي تقتضي حق الأولوية في المرابطة، ووضع القادرين من المسلمين أمام مسئولياتهم، وإذكاء حسهم باستشعار هـذه المسئوليات، وتجديد ذاكرتهم نحو الإسلام، وتحديد المعاني الإسلامية السامية في نفوسهم.
إنه إحدى محاولات تجديد الفهم الإسلامي بعد أن ترسبت عليه أوضاع اجتماعية معينة، أو ترسب هـو على عادات وتقاليد ليأخذ شكلها، ولتصبح شيئا فشيئا من الإسلام أو هـي الإسلام في نظر بعضنا. وتصويب مفهوم العبادة وتحقيق العبودية بالنسبة للمسلمين الموزعين في المواقع المختلفة: فهناك عبادة خاصة بالأغنياء، وعبادة خاصة بالعلماء، وعبادة خاصة بالحكام والأمراء، وعبادة خاصة بالفقراء وطلاب العلم والقائمين على الحراسة في سبيل الله... إلخ، إلى جانب القدر المفروض والمشترك من الصيام والصلاة وبقية التكاليف في بناء الإسلام.
فعبادة الأغنياء وعبوديتهم: أن يؤدوا شكر النعمة بإعطاء الفقير حقه؛ ( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل [ ص: 8 ] والمحروم ) (المعارج:24-25) ، ذلك أن الله عز وجل جعل حقوق الفقراء أمانة عند الأغنياء، فإذا جاع الفقير أو عري فبظلم من الغني، فإذا حاول الأغنياء الاقتصار على الصلاة والصيام والحج وأداء النوافل وقعدوا عن إعطاء الفقراء حقهم وظنوا أنهم خرجوا من عهدة التكليف فقد أخطئوا فهم التكليف الإسلامي، وأخطئوا طريق العبادة وتحقيق العبودية.
وعبادة العلماء: قولة الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لئلا يضل الناس أو يضللوا، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، وألا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا من منصب أو جاه أو مال؛ حتى لا تنتقل للأمة المسلمة علل أصحاب الأديان السابقة الذين كانوا لا ينهون عن المنكر، ولا يستنكرون فعلا محرما، قال تعالى: ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) (المائدة:63) ، فاستحقوا اللعن والسقوط حتى أصبحوا أثرا بعد عين.
وعبادة الحكام: الحكم بما أنزل الله، وتحقيق العدل، والوقوف إلى جانب الضعيف والفقير، والانتصاف له من القوي؛ (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له بحقه) . إنه ميزان العدالة وطريق العبودية الحقة لله تعالى.
وعبادة الفقراء: الصبر على الواقع وعدم الانكسار أمامه [ ص: 9 ] والاستسلام له، الصبر الذي يحمي النفوس، ويصقل المواهب، ويفتح النوافذ، ويجمع الطاقات، ويدفع إلى الانطلاق لتحقيق الكسب.
وعبادة طلاب العلم: النبوغ في اختصاصاتهم؛ لتحقيق فرص الكفاية لمجتمعاتهم -التكافل الاجتماعي، والاكتفاء الذاتي- ذلك أن التحقق بالاختصاص والنبوغ فيه بالنسبة لهم أصبح فرض عين بعد اختيارهم لطريقه، وعدم النكوص والسقوط في الفهم المعوج وترك مقاعد الدراسة والتخصص باسم مصلحة الإسلام ومتطلبات الدعوة الإسلامية.
وهكذا فئات المجتمع عامة، كل تأتي عبادته وتحقيق عبوديته لله عز وجل ؛ بأداء ما أنيط به، وليس من الإسلام أداء بعض النوافل والمندوبات بالنسبة للأغنياء والقعود عن الفرائض والواجبات من إعطاء الفقير حقه، ومخادعة النفس بأن ذلك هـو التقوى والصلاح المطلوب، فقد يكون ذلك من تلبيس إبليس.
لقد افتقد مسلم اليوم -إلا من رحم الله- الرؤية الإسلامية الشاملة على مستوى التصور والتطبيق معا؛ فبدأ يعيش حالة التبعيض التي تورث الخزي، ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة:85) ، وافتقد تبعا لذلك [ ص: 10 ] الإحساس بترابط الجسم الإسلامي الواحد بعد عمليات البتر والتقطيع التي مورست عليه، فغابت الحقيقة الإسلامية المتمثلة في ( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. ) ، لقد قطعت أوصال الجسم الإسلامي فلم يعد المسلم اليوم يحس بما يصيب سائر الجسد، و (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) ، لقد غابت عن عالم المسلمين اليوم الأصول النفسية للتكافل الاجتماعي التي غرسها الإسلام، غاب مدلول الأخوة وحقوقها مرتكز هـذه الأصول جميعا، قال تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) (الحجرات:10) ، ( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره. ) ، فكيف نسلم الكثير من المسلمين اليوم إلى الفقر والفاقة والظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي؟
وغاب مفهوم الرحمة؛ وهي الغاية التي من أجلها نزلت شريعة الله عز وجل ، قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) .
وغاب مفهوم الإحسان؛ وهو عدم الاقتصار على إعطاء الناس حقوقهم عدلا، وإنما التنازل لهم عن بعض حقوقنا إحسانا، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.
وغاب مدلول المحبة التي هـي من ثمرات الأخوة، [ ص: 11 ] والتي بدونها لا يستقيم إيمان ولا تتحقق نجاة وفوز؛ ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. )
وغاب مفهوم الإيثار، الذي كان يحكم جماعة المسلمين في الشدة والرخاء، قال تعالى:
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر:9) .
ولم يقتصر الإسلام في حمايته مجتمع المسلمين على غرس الأصول النفسية للتكافل، وبذلك تنتهي التعاليم الإسلامية إلى وصايا خلقية تحاكي الضمير وإنما أوجد إلى جانب ذلك التشريعات التكافلية الملزمة من نظام الزكاة والميراث والنفقات الواجبة، وحرس استمرارية هـذه المعاني بالتربية في جانب الأصول النفسية، وبالعقوبات الملزمة للتشريعات المالية، وبالرقابة العامة الدائمة على ذلك؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم من جانب آخر.
وفي اعتقادنا أنه في غيبة تشريعات التكافل الاجتماعي الملزمة بسبب غياب الشريعة الإسلامية عن التطبيق لا بد من التأكيد على هـذه الأصول النفسية، التي هـي في طبيعتها أسبق من التشريعات الملزمة، والمقدمة الطبيعية للانتهاء إليها.
ونعود إلى القول: إنه لا بد من مراجعة لفهمنا للإسلام وتجديد هـذا الفهم الذي أنتج هـذا الواقع الذي نحن عليه، وإن قبولنا بهذا الفهم يعني رضانا بهذا الواقع. [ ص: 12 ] ( لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له. يقول أبو سعيد : فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافا من المال -غير الظهر والزاد- حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل. )
إن الظهر والزاد لم تذكر هـنا على سبيل الحصر، وإنما ذكرت على سبيل المثال كما هـو معلوم؛ لقد مثل الرسول صلى الله عليه وسلم بها وبغيرها من الأموال -فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافا من المال- " حتى انتهى رأي الصحابة رضوان الله عليهم فيما يرويه أبو سعيد : حتى رأينا -أي: انتهى رأينا- أنه لا حق لأحدنا في فضل. " إنه يحرم الادخار أيام الشدائد والأزمات التي تتعرض لها الأمة. الأمر الذي لم تقل به أكثر المذاهب تطرفا وادعاء للتكافل الاجتماعي أو للضمان الجماعي، حتى وصل الأمر ببعض الصحابة إلى القول بتحريم الادخار دائما، وتحديد الكنز بأنه ما زاد عن حاجة يومك في كل الأوقات، مما كاد يوقع المسلمين في حرج؛ " فكان جواب سيدنا عمر رضي الله عنه على ذلك بقوله: لماذا شرعت الزكاة إذن؟ " أليست شرعة الزكاة هـي عن المدخرات المملوكة التي يحول عليها الحول؟
ومن هـنا نقول: إن الادخار يصل إلى مرحلة التحريم وقت الحاجات والشدائد والأزمات.
هذا كله عدا عن نفي الإيمان عن الذي يبيت شبعان وجاره جائع [ ص: 13 ] وهو يعلم؛ ( والله لا يؤمن من بات شعبانا وجاره جائع وهو يعلم ) . ولا يتسع المجال هـنا لذكر بعض الفتاوى في هـذا السبيل التي تؤكد على عنصر الإلزام في الموضوع، كفتوى ابن حزم وغيره؛ لأنها معروفة في مظانها من كتب الفقه، لكن الذي أردنا إليه هـو تحديد موقع الفقراء والمحرومين في المجتمع الإسلامي.
إن الحصانة الإسلامية ضد الأفكار والمبادئ الهدامة سوف لا تتأتى باستعارة الإسلام والمبادئ الإسلامية كشعار يرفع في المناسبات، ويكون وسيلة للوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها، ولا بإطعام فقراء المسلمين في المواسم الدينية، وإطعامهم الخطب والمواعظ والكلام والوعود وإنما بمعالجة الأسباب التي تستدعي هـذه المبادئ إلى عالم المسلمين. ولو بذل علماء المسلمين الجهود في تربية وتوعية أغنياء المسلمين على الإسلام الباذل ومناصحة أولي الأمر ليقوموا بمسئولياتهم تجاه ذلك لما احتاجوا إلى مهاجمة هـذه المبادئ التي سوف لا تجد طريقا إلى بلاد التكافل والعدالة الاجتماعية والتغرير بالفقراء، ووعدهم بالفردوس المفقود حيث ترتفع آمالهم ويشتد فقرهم.
إن بعض العلماء الذين يستأجرون ليغدقوا على الفقراء الخطب دون أن يجهروا ببيان الأسباب؛ أسباب الفقر ومعالجتها سوف لا يجدون آذانا صاغية من الجماهير الفقيرة، هـذه الجماهير التي تشكل عدة الأمم في السلم والحرب على حد سواء، فهي سواعد الإنتاج في السلم، ودروع البلاد في [ ص: 14 ] الحرب، ( والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ) .
من هـنا نقول: إن هـذا الكتاب وضع أغنياء المسلمين وولاة أمرهم أمام مسئولياتهم، وأوضح لهم بالأرقام تلك الثغور المفتوحة التي سوف يؤتون من قبلها إن عاجلا أو آجلا إذا لم يتداركوا الأمر، ووضع العاملين للإسلام ودعاته في الصورة الدقيقة؛ ليحددوا بعدها أولويات العمل وساحات الجهد الحقيقي.
لقد قدم الدكتور نبيل صبحي الطويل في هـذا الكتاب إحصائيات لواقع البؤس والمرض والجهل والتخلف والأمية في أكثر من بلد إسلامي من خلال تجربته الميدانية وطبيعة عمله في منظمة الصحة العالمية، ولا شك عندنا أن هـذه الإحصائيات غائبة غيابا يكاد يكون كاملا عن العاملين في الحقل الإسلامي فكيف بعامة المسلمين، إن الإحصاء أصبح علما له وسائله وطرقه، كما أصبح ضرورة لا يستغنى عنها في رسم خطط التنمية، إنه بالنسبة للعمل الصحيح ووضع الخطط أشبه بما يسبق عملية البذر من دراسة للتربة وتحديد لنوعيتها، ودراسة لكمية الأمطار والمناخ الملائم، ومن ثم يأتي اختيار البذر المستنبت.
وقد يكون الأمر الخطير في عالم المسلمين اليوم فيما وراء فسق المترفين الذين هـم دائما سبب دمار هـذه الأمم وسقوط حضارتها، وأقنية القاذورات والأمراض الجنسية والانحلال، الذي يتسرب إلى جسمها. قد يكون الأمر الخطير [ ص: 15 ] عند المسلمين اليوم: فقدان جدول الأولويات، وليست مسألة تصنيف الإنفاق وتحقيق التكافل بأحسن حالا من قضاياهم الأخرى الكثيرة التي تغيب فيها جدولة الأولويات وتتغيب الحسابات. فقد تقدم أموال في بعض بلدان العالم الإسلامي لمشاريع خيرية وفقراء، تعتبر إذا ما قيست بالفقراء الذين لا يجدون الكفاف في مناطق أخرى من صور الترف والرفاهية، والعالم الإسلامي كالجسد الواحد، فما بالنا نساهم بتكريس تمزيقه وتقطيع أوصاله؟ لقد بحث فقهاؤنا أولوية الحاجة، ولعل الذي يرجع إلى بحثهم حول: أيهما أشد حاجة إلى العطاء؛ الفقير أم المسكين من مصارف الزكاة، وإذا لم يجد الإنسان إلا أن يعطي أحدهما؟ بين الشافعية والحنفية ما يدلل على هـذا النظر الثاقب والبصيرة الواعية التي غابت عن عالمنا.
ولست بحاجة إلى القول هـنا: إن العالم الإسلامي هـو عالم متكامل اقتصاديا. إنه يمتلك الطاقة التي تحرك العالم، ويمتلك المساحات الواسعة والمياه والمناخات المختلفة التي تؤهله لأن يكون مخزن العالم بالغذاء أيضا. فإذا أضيف إلى ذلك كله العقيدة الوسط، فإن العالم ينتظر دوره في قيادة البشرية إلى الخير وإلحاق الرحمة بها. لقد قام بعض المتخصصين في الجغرافيا - الأستاذ عمر الحكيم رحمه الله- بتقديم دراسة رقمية عن واقع العالم الإسلامي المتكامل اقتصاديا، القادر على أن يكون مخزن غذاء العالم وطاقته في المستقبل فيما إذا أحسنت قضية الاستثمار: فهل من [ ص: 16 ] سبيل إلى ذلك لتنتهي مشكلة الفقر في العالم الإسلامي ويتحقق النصر؟
إن تحقيق التكافل الاجتماعي من شروط نهوض الأمم وبناء المجتمعات، وحسبنا أن نعلم أن المسلمين في جيش العسرة ( غزوة تبوك ) بعد أن نفد زادهم في طريق العودة، اشترك العشرة منهم في امتصاص التمرة الواحدة، فكان ما كان من النصر والتمكين، فأين واقعنا اليوم من التحقق بشروط النصر؟
وبعد: فكم نتمنى أن يتفرغ الدكتور نبيل ، وهو الطبيب الأديب بما أتيح له من مجال بطبيعة عمله أو طبيعة طوافه على معظم بلاد العالم الإسلامي ليقدم دراسة اجتماعية اقتصادية ثقافية لمجتمعات المسلمين التي شاهدها؛ لتكون دليل عمل للمسلم اليوم، وألا يوزع اهتماماته في أكثر من موقع، فليس المستشرقون والمنصرون أحق بذلك.
ونحب أن نؤكد بأننا عدلنا عن ذكر بعض النماذج لصور التخلف والحرمان في بلاد المسلمين لندع الأخ القارئ وجها لوجه أمام هـذه الأرقام المفزعة على صفحات الكتاب، والله حسبنا ونعم الوكيل. [ ص: 17 ]