ما هـو الفقر؟ يعرف الفقر الآن بأنه: (عدم القدرة على الحصول على الخدمات الأساسية) . وهذه الخدمات هـي أساسية لأنها توفر الحد الأدنى اللازم -الكفاية- لكي يعيش الإنسان، خليفة الله في الأرض، عيشة كريمة تليق بمستوى التكريم الذي خصه الله به ( ولقد كرمنا بني آدم ) (الإسراء:70) .
والخدمات الأساسية هـذه هـي حق من حقوق الإنسان في الإسلام، [ ص: 23 ] إن لم يستطع الحصول عليها بعمله وإنتاجه ومدخوله لأي سبب وجيه على الدولة القائمة أن توفرها له.
(إن الإنسان خليفة الله في أرضه، قد استخلفه عليها لينمي الحياة فيها ويرقيها، ثم ليجعلها ناضرة بهيجة ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها، ثم ليشكر الله على أنعمه التي آتاه. والإنسان لن يبلغ من هـذا كله شيئا إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة، ولو كانت كافية، فكيف إذا قضى الحياة فلم يجد الكفاية؟) [1] .
( ولقد استعاذ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من الفقر والكفر في حديثه الصحيح: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ) . ( وذكر عليه الصلاة والسلام حق الإنسان الآدمي في هـذه (الخدمات الأساسية) في حديث آخر: ليس لابن آدم حق فيما سوى هـذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء. ) أي المسكن المناسب له ولأهله، والكساء اللازم له ولأهله، والغذاء الضروري من طعام متوازن كاف وماء نظيف يمنعان عنه وعن أهله الجوع والعطش، فيأمن هـو وأهله غائلة الأيام، ويكون صحيحا في بدنه ونفسه وبيئته التي يعيش فيها.
وإذا جاءت منظمة الصحة العالمية في أواسط القرن العشرين بتعريفها الجامع للصحة فذكرت أن (الصحة هـي حالة من اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا لا مجرد انعدام المرض أو [ ص: 24 ] العجز) [2] .
فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أوضحها قبل أربعة عشر قرنا من الزمان في معرض توجيهه للمؤمنين في القناعة والاطمئنان والرضى في هـذه الحياة، إذا توفرت لهم هـذه (الأساسيات) ، ( قال صلى الله عليه وسلم : من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما أجيزت له الدنيا بحذافيرها. ) ؛ أي: توفر الأمن والأمان في النفس والبدن والمجتمع، (وهذا ما يسمونه في هـذه الأيام: الأمن النفسي ، والأمن الغذائي ، والأمن الاجتماعي ) .
والقناعة والرضى والزهد هـي من الخصال التي يتحلى بها صفوة المؤمنين الأتقياء. بعد أن ينالوا حقوقهم الأساسية المذكورة -الكفاية- فيرتقون درجات في الإحسان والتكاسل عن طلب الحقوق الأساسية، ليس زهدا؛ فعلي المسلم أن ينال حقوقه هـذه ويتمتع بها، فإن وقف دونه ظلم (سعى لدفع الظلم عنه بكل ما أوتي من قوة، بالوسائل التي شرعها الإسلام، فالسكوت على الظلم والصبر على الظالمين مع إمكان دفعهم عن ظلمهم أمر غير محمود في الإسلام، وإذا كان الإسلام أجاز قتال الإنسان عن ماله واعتبره شهيدا إذا قتل؛ ( من قتل دون ماله فهو شهيد. ) فما بالك بمن يدفع عن نفسه غائلة الجوع والهلاك) [3] . [ ص: 25 ] (وقد شرع الإسلام قواعد إلزامية لتحرير البشر من الفقر دون أن يقتصر على الحض ترغيبا وترهيبا، وبدافع التقوى على تخليص الناس من الفقر وتخفيف وطأته عنهم بمشاركتهم ومواساتهم، بل سلك الطريقين معا؛ الإلزامية والداخلية النفسية، وبهذه يتضح لنا خطأ القائلين بالرضى بالواقع بحجة أن الله قد قسم الأرزاق بين الناس وجعل منهم الفقراء والأغنياء.
إن الله أمرنا ألا نرضى بالظلم والفساد والشرك والجهل مع أنها كلها من تقدير الله وقضائه، بل أمرنا بالإنكار والتغيير بل محاربة هـذه الظاهرات الاجتماعية لإحلال العدل والفضيلة والإيمان والعلم محلها، وما يصاب به الإنسان من مرض أو هـلاك نفس أو مال عليه أن يدفعه عن نفسه) [4] .
وصدق الله العظيم :
( والذين إذا أصابهم البغي هـم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ) (الشورى:39-43) .
هذا هـو (الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة) . [ ص: 26 ]