[3] التعريف بالإمام مسلم بن الحجاج وبكتابه الجامع
التعريف بالإمام مسلم: (204-261هـ)
أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد القشيري النيسابوري .
أول سماعه سنة ثمان عشرة ومائتين من يحيى بن يحيى التميمي ، وفي العشرين سمع من القعنبي بمكة ، وهو أكبر شيخ له، ثم رجع إلى وطنه ليرتحل قبل الثلاثين ومائتين، وسمع بالعراق والحرمين ومصر [1]
منهجه في كتابه الجامع
الإمام مسلم تلميذ الإمام البخاري ، وقد تخرج على يديه، وكتابه مكمل لكتاب البخاري. ويمتاز منهج مسلم بما يلي:
[1] بين الإمام مسلم طريقته في كتابه، فذكر في مقدمته الرائعة سبب تأليف الكتاب، وما أخذ على نفسه من الشروط فيه. وتعتبر مقدمة صحيح مسلم من أوائل المقدمات العلمية المنهجية، بل هـي جديرة أن تكون النموذج المنهجي العالمي في علم المقدمات. وهذه الميزة لمسلم ينفرد بها دون البخاري. وفيما يلي أهم قضايا المقدمة:
(أ) بيان سبب تصنيف الكتاب، فنجده يقول وهو يخاطب أحد [ ص: 129 ] تلاميذه: أما بعد: فإنك يرحمك الله بتوفيق خالقك، ذكرت أنك هـممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين وأحكامه، وما كان فيها من الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب وغير ذلك من صنوف الأشياء، بالأسانيد التي نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم، فأردت أن توقف على جملتها مؤلفة محصاة، وسألتني أن ألخصها في التأليف بلا تكرار يكثر. والاستنباط لها. وللذي سألت -أكرمك الله- حين رجعت إلى تدبره وما تؤول به الحال عاقبة محمودة ومنفعة موجودة، وظننت حين سألتني تجشم ذلك، أن لو عزم لي عليه وقضي لي تمامه كان أول من يصيبه نفع ذلك أياي خاصة، قبل غيري من الناس لأسباب كثيرة يطول بذكرها الوصف .
(ب) بيان عزمه على التأليف وتحديد طريقته فيه: فقال: (ثم إنا إن شاء الله مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك: وهو أنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار، إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد، لعلة تكون هـناك.
فأما القسم الأول: فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هـي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا. [ ص: 130 ]
فإذا نحن تقصينا أخبار هـذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا -فيما وصفنا- دونهم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار.
فأما ما كان منها عن قوم هـم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم، فلسنا بتشاغل بتخريج حديثهم، كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني ، وعمرو بن خالد ، وعبد القدوس الشامي ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وغياث بن إبراهيم وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثم ) .
(ج) بين وجوب الرواية عن الثقات وترك الرواية عن الضعفاء والكذابين.
(د) ناقش صحة الاحتجاج بالحديث المروي بصيغة (عن) وحمل هـذه الصيغة على الاتصال إذا برئ صاحبها من التدليس، وبين منهجه في قبولها. [ ص: 131 ]
دراسة وتحليل
بين الإمام مسلم في مقدمته هـذه أن الأخبار في كتابه الجامع ثلاثة أقسام، فذكر قسمين منها نصا، وذكر القسم الثالث إشارة من خلال بيانه للقسم المردود الذي لا يذكر شيئا منه ولا يعرج عليه. وبذلك يكون قد ذكر ثلاثة أقسام من الأخبار بشكل عام [2]
القسم الأول: وهو الذي يتوخاه ويجعله عمدة كتابه وأساس بنائه، ويقدمه على غيره، وقد وصف هـذا القسم من الأخبار بأنه أسلم من العيوب من غيره، وأنقى، وأن نقلته أهل استقامته وإتقان، وقد مثل لهؤلاء بمنصور بن المعتمر ، وسليمان الأعمش ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وعبد الله بن عون ، وأيوب بن أبي تميمة السختياني .
القسم الثاني: وهو تابع للقسم الأول، ويتناول الأخبار التي يقع في أسانيدها من ليس موصوفا بالحفظ والإتقان، وإنما يشملهم اسم الستر والصدق وتعاطي العلم، ومثل لهؤلاء بعطاء بن السائب ، ويزيد بن أبي زياد ، وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار.
القسم الثالث: ويفهم من خلاله كلامه عن القسم المردود الذي لا يعرج عليه لأن أصحابه من المتهمين بالوضع وتوليد الأخبار، ومن غلب على حديثهم المنكر والغلط، ويخرج من هـذا القسم الثالث الأخبار التي لا يخلو رواتها ممن يتهم عند بعض العلماء ويوثقه بعضهم، وهو [ ص: 132 ] المختلف فيه، وهؤلاء مثل أسباط بن نصر ، وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري .
وبالرغم من تفاوت هـذه الأقسام في مراتب رجالها ودرجاتهم في الضبط والإتقان والتوثيق إلا أن الإمام مسلما التزم منهجه، وحافظ على غاية كتابه في أنه جامع صحيح، لأن الإمام مسلما لا يذكر هـؤلاء الضعفاء استقلالا، ولا يعتمد عليهم وإنما يذكرهم تبعا واستشهادا.
اعتراض ومناقشته
: لقد وجه الإمام مسلم الاعتراض على صنيعه هـذا في حياته، ورد على ذلك بنفسه، قال الإمام النووي : روينا عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه حضر أبا زرعة الرازي ، وذكر صحيح مسلم وإنكار أبي زرعة عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير ، وأحمد بن عيسى المصري ، وأنه قال -أيضا-: يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث: ليس هـذا في الصحيح. قال البرذعي: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة، فقال لي مسلم: إن ما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلى عنهم بارتفاع [3] ، ويكون عندي من رواية من هـو أوثق منهم [ ص: 133 ] بنزول فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات [4]
وهذا القول الذي رد به مسلم على أبي زرعة يجعلنا نخلص إلى قاعدة تقول: على المحدث أن يميز الخطأ القليل النادر من أحاديث الثقات من صحيح حديثهم، وأن يميز الصواب القليل النادر من حديث الضعفاء من ضعيف حديثهم، وهذا القول يسير مع منهج الإمام مسلم في كتابه "التمييز" الذي ذكر فيه بعض أوهام الثقات الأعلام وأخطائهم. وهذه ميزة للإمام مسلم تدل على تبحره في الحديث، ودقة منجه، فهو يتعامل مع بعض الرواة على أنهم حمال آثار ونقال أخبار، ولم يصفهم بالحفظ ولا بالإتقان. وهؤلاء الحمال والنقال يشبه حالهم حال من يحمل على ظهر دابته سلعا كثيرة لا يميز جيدها من رديئها، فإذا وقعت هـذه الأحمال في يد التاجر الماهر أو الصانع العارف فإنه يلتقط جيدها ويدع ردئيها، ويكون على خبرة بها أكثر من صاحبها. فالإمام مسلم هـو الناقد البصير الحافظ الخبير بروايات الرواة أكثر من الرواة أنفسهم. ومثل مسلم لا يتعامل مع الروايات باعتبارها جديدة عليه، بل يكون حفظها، وجمع طرقها، وقارن بينها، وميز بين ألفاظها وأسانيدها، وهو يستطيع تخير ما يشاء منها وفق منطق كتابه ومقتضيات منهجه. وهذه خصيصة عند الإمامين الجليلين البخاري ومسلم رحمهما الله.
وقد أجاب الإمام أبو عمرو بن الصلاح [5] على اعتراض من عاب [ ص: 134 ] مسلما بروايته عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية بأمور:
أولها: أن الإمام مسلما قد يوثق من هـو ضعيف عند غيره، وقد نقل كلام أبي بكر الخطيب في ذلك، حيث قال: [ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود بجماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب] ومعنى كلام الخطيب أن الجرح قد يكون مؤثرا بسبب معقول وقد يكون غير مؤثر وسببه لا يكفي لإثبات الجرح. وبعض من ضعف عند قوم إنما ضعف بسبب غير وجيه، ومن ذلك كثرة الاتهام بالبدعة حيث كان يرمى بها بالشبهة والظن.
والثاني: أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا، ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبيه على فائدة فيما قدمه.
والثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه، أي كان عند الرواية ضابطا، ثم ساء حاله واختلط عقله، فما كان من الرواية في حال قوته فهو صحيح.
[2] منهج الأبواب الحديثية:
لقد نهج الإمام مسلم منهج الأبواب الحديثية. وهذا المنهج يجمع الروايات ذات الموضوع الواحد في مكان واحد، وتظهر فيه الخبرة الحديثية من خلال تنوع الأسانيد والألفاظ. [ ص: 135 ]
مثال: باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد
(662) قال الإمام مسلم: حدثنا عبد الله بن براد الأشعري [6] وأبو كريب [7] قالا: حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام. )
وفي رواية أبي كريب: حتى يصليها مع الإمام في جماعة.
(663) حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا عبتر عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي ( عن أبي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة قال: فقيل له، أو قلت له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء والرمضاء! قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد. وإني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد جمع الله لك ذلك كله ) . [ ص: 136 ] - وحدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر .
- (ح) وحدثنا إسحق بن إبراهيم قال: أخبرنا جرير ، كلاهما عن التيمي بهذا الإسناد بنحوه.
- حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا عباد بن عباد حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن أبي بن كعب ( قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدنية ، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتوجعنا له، فقلت له: يا فلان: لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هـوام الأرض! قال: أم والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم قال: فحملت به حملا حتى أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: فدعاه. فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو في أثره الأجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن لك ما احتسبت ) .
- وحدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة .
- (ح) وحدثنا سعيد بن أزهر الواسطي قال: حدثنا وكيع حدثنا أبي كلهم عن عاصم بهذا الإسناد ونحوه.
(664) وحدثنا حجاج بن الشاعر ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، حدثنا أبو الزبير ( قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد فأردنا أن نبيع بيوتنا فنتقرب من المسجد فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لكم بكل خطوة درجة ) . [ ص: 137 ] (665) حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال: سمعت أبي يحدث قال: حدثني الجريري عن أبي نضرة ( عن جابر بن عبد الله قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أردنا ذلك. فقال: يا بنى سلمة: دياركم تكتب آثاركم ) .
- حدثنا عاصم بن النضر التيمي ، حدثنا معتمر قال: سمعت كهمسا يحدث عن أبي نضرة ، عن جابر بن عبد الله ( قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد- قال: والبقاع خالية- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا بني سلمة: دياركم، تكتب آثاركم فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا ) .
في هـذا الباب الحديثي ذكر مسلم حديث ثلاثة من الصحابة:
1- حديث أبي موسى الأشعري ، وجاء في طريقين: عبد الله بن براد وأبي كريب .
2- حديث أبي بن كعب ، وجاء في ست طرق: يحيى بن يحيى ومحمد بن عبد الأعلى ، وإسحق بن إبراهيم ، ومحمد بن أبي بكر المقدمي ، وسعيد بن عمرو الأشعثي ، ومحمد بن أبي عمر .
3- حديث جابر بن عبد الله، وجاء في ثلاث طرق: حجاج بن ، [ ص: 138 ] الشاعر ومحمد بن المثنى ، وعاصم بن النضر التيمي .
ومن خلال هـذه الروايات ذكر مسلم اختلافات الإسناد والمتن وما بين الروايات من الفروق، وهذا أمر ينتفع به المحدث الذي يريد متابعة الطرق والأسانيد ليزداد من المعرفة الحديثية المتخصصة. وقد نجد مسلما يسوق عشرين فرعا للإسناد الواحد، وهذه الصنعة الحديثية التي اختص بها مسلم لا نجدها عند البخاري بالمنهج نفسه، بل تغلب على البخاري الطريقة الفقهية، وهي التي تعنى بتفريق أحاديث الباب على أبواب فقهية كثيرة. فلو أردنا جمع أطراف الحديث الذي ذكرناه آنفا من صحيح البخاري فسنجده في أبواب عديدة وكتب متفرقة.
ومن نتائج هـذا المنهج السهولة واليسر في الوصول إلى الحديث المطلوب، لأن طالب الحديث يجده في الأبواب المخصصة له.
ومن خلال هـذا المنهج - وهو باب الحديثي- يكون الإمام مسلم قد فتح الباب للوصول إلى الحكم على الحديث من خلال الباب. وكان الإمام الشافعي قد أشار إلى بواكير هـذه المنهج، حيث ذهب إلى تقوية الحديث المرسل عن طريق روايات أخرى، ثم توسع مسلم في توظيف الباب لتقوية الحديث، وإن كان الإمام مسلم يستفيد من هـذه التقوية ضمن مراتب الصحة التي احتوى عليها صحيحة، حيث تقع أحاديثه بين أدنى درجات الصحة وأعلاها، إلا أنه يؤيد الرواية بالرواية، ويعضد الطريق بالطريق، حتى ينقلنا إلى مراتب الصحة العليا. وهذا الأمر لم يفعله البخاري لأنه يحقق مرتبة الصحة العليا ابتداء لاعتماده على الرواية القوية العالية فيستغني بذلك عن التأييد والتعضيد بروايات أخرى. [ ص: 139 ]
وسنرى منهج الباب الحديثي يمتد عند الإمام الترمذي ليتناول أنواعا من الضعيف يرقى بها إلى درجة الاحتجاج.
[3] يغلب على روايات الإمام مسلم أنها نسخ رواها عن شيوخه، أي أن أصول صحيح مسلم خطية عرضها على مشايخه، ومن هـنا كان الأداء عند مسلم أدق؛ لأنه يؤدي الألفاظ كما أخذها عن شيوخه، يضاف على ذلك أن مسلما بارع في تسجيل الفوارق بين الأسانيد والمتون، فقلما يفوته شيء إلا ويثبته، وكأنما هـو محقق يلاحظ أدق الفروق فيثبتها بعناية فائقة. ويميز الإمام مسلم بين حدثنا وأخبرنا، فالأولى صيغة تكشف عن السماع من الشيخ، والثانية تكشف عن القراءة على الشيخ. وعندما يذكر مسلم رجال الإسناد فإنه يذكرهم كما بلغه عن شيوخه، وإذا أراد أن يكشف الإبهام عن شيخ سمي باسمه الأول أو بكنيته فإنه يقول: "يعني فلانا" ليميز ما يضيفه على السند من عنده عن أصل السند.
[4] منهج الإمام مسلم لا يتعامل مع المعلومة الحديثية منفصلة عن سياقها ولحاقها وظروف النص وبيئته، وإنما يحاول من خلال كثرة الروايات أن يقدم لنا القصة الحديثية عبر الأسانيد والمتون للوصول إلى نوع من التكامل. وإذا أردنا توضيح هـذه القصة فلا بد من مثال يبرز هـذه السمة المنهجية: [ ص: 140 ] قال الإمام مسلم [8] :
(39) - (24) وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي ، أخبرنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال: أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبيه ( قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هـو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فأنزل الله عز وجل : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) [التوبة:113]، وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) [القصص:56] ) .
(40) - (...) « وحدثنا إسحق بن إبراهيم ، وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر (ح) وحدثنا حسن الحلواني ، وعبد بن حميد قالا: حدثنا يعقوب -وهو: ابن إبراهيم بن سعد- قال: قوله: فأنزل الله عز وجل فيه، ولم يذكر الآيتين. وقال في حديثه: ويعودان في تلك المقالة. وفي حديث معمر مكان هـذه الكلمة: فلم يزالا به » .
(41) - (25) ( حدثنا محمد بن عباد ، وابن أبي عمر قالا: حدثنا مروان عن يزيد -وهو: ابن كيسان- عن أبي حازم ، عن أبي هـريرة ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه عند الموت: قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة. فأبى فأنزل الله: ( إنك لا تهدي من أحببت ) الآية. ) [ ص: 141 ]
(42) - ( ... ) ( حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم الأشجعي ، عن أبي هـريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه: قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة. قال: لولا أن تعيرني قريش - يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع - لأقررت بها عينك، فأنزل الله: ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) [القصص: 56] ) .
ونستطيع أن نلاحظ تكامل الصورة من خلال جميع الروايات، فنجد الرواية الثالثة فيها زيادة ليست في الأولى ولا في الثانية: ( لولا أن تعيرني قريش - يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع - لأقررت بها عينك ) . كما نلاحظ فروق الأسانيد.
وقول مسلم (وهو ابن إبراهيم بن سعد) وقوله (وهو ابن كيسان) . فالإمام مسلم سمع شيخه يقول: (يعقوب) دون ذكر اسم أبيه أو جده، ويقول: (يزيد) ولا ينسبه، فلم يعمد إلى تكملة النسب دون بيان أن هـذه النسبة من أصل الإسناد أو هـي إضافة من قبل الإمام مسلم نفسه؛ بل أضافها إضافة تميزها عن أصل الإسناد.
[5] لم يترجم الإمام مسلم لأبواب كتابه، واكتفى بعنوان الكتاب فقط، كأن يقول: (كتاب الإيمان) ، وهذا التفصيل الموجود في النسخة المطبوعة من صحيح مسلم، إنما هـو من قبل الإمام النووي شارح صحيح مسلم.
[6] جعل الإمام مسلم كتابه كتابا جامعا لموضوعات شتى، فاحتوى على الفقه والأحكام والزهد والسير والمغازي.
[7] لم يستوعب الإمام مسلم الأحاديث الصحيحة في كتابه، وإنما ذكر طائفة من الصحيح وترك الكثير من الحديث الصحيح، سيرا على [ ص: 142 ] منهجه في الاختصار، وعدم الإطالة، كما قال في المقدمة: (وسألتني أن ألخصها لك في التأليف بلا تكرار يكثر) .
[8] ثم إن الإمام مسلما يختار رجال أسانيده من رجال الصحيح أهل الطبقة الثانية فصاعدا، وهم المشهورون بالعدالة والضبط، إلا أن ملازمتهم لشيوخهم أقل من رجال الطبقة الأولى أصحاب الصحبة الطويلة والممارسة والملازمة. ومثال ذلك: تلاميذ الزهري الذين أخذوا عنه الحديث يتفاوتون على درجات:
أما أعلاها وأوثقها فهم الطبقة الأولى، نحو: مالك بن أنس وسفيان بن عيينة .
وأما الطبقة الثانية، فنحو: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، والليث بن سعد ، والنعمان بن راشد ، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر .
والطبقة الثالثة، نحو: سفيان بن حسين السلمي ، وجعفر بن برقان ، وعبد الله بن عمر بن حفص العمري ، وزمعة بن صالح المكي وغيرهم.
والطبقة الرابعة، نحو: إسحاق بن يحيى الكلبي ، ومعاوية بن يحيى الصدفي ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة المدني ، وإبراهيم بن يزيد المكي ، والمثنى بن الصباح ، وجماعة سواهم.
والطبقة الخامسة، نحو: بحر بن كثير السقا ، والحكم بن عبد الله الأيلي ، وعبد القدوس بن حبيب الدمشقي ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وغيرهم.
والإمام مسلم يعتمد على رجال الثانية والثالثة، وعنده الكثير من رجال الطبقة الأولى، في حين أن البخاري يعتمد على رجال الأولى، وقد يخرج عن أعيان الطبقة الثانية. [ ص: 143 ]