[4] الإمام أبو داود ومنهجه
التعريف بأبي داود (202-275) [1]
سليمان بن الأشعث بن عمرو الأزدي السجستاني . رحل وجمع وصنف وبرع في هـذا الشأن. سمع الكثير من العلماء في مكة والكوفة وحلب وحران وحمص ودمشق وبغداد ومصر . ومن أشهر شيوخه: قتيبة بن سعيد ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين . يقول عن رحلته: (دخلت الكوفة سنة إحدى وعشرين، وما رأيت بدمشق مثل أبي النضر الفراديسي ، وكان كثير البكاء، كتبت عنه سنة اثنتين وعشرين) . وقوله هـذا يعني أنه بدأ رحلته وهو دون العشرين من العمر. كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمه وعلله وسنده، في أعلى درجات النسك والعفاف والصلاح والورع، من فرسان الحديث؛ قال إبراهيم الحربي : ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود عليه السلام الحديد .
منهج أبي داود في سننه
يعتبر كتاب السنن لأبي داود من دواوين الحديث المشهورة، وهو أحد الكتب الستة، وقد خصص أبو داود كتابه هـذا لأحاديث الأحكام، وتوسع في جمعها وذكرها وتبويبها، وقد بين هـذا في رسالته إلى أهل مكة، [ ص: 144 ] حيث قال: وإنما لم أصنف في كتاب السنن إلا الأحكام، ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال.
وقد احتوى الكتاب على أربعة آلاف وثمانمائة حديث متصل وستمائة حديث مرسل [2] وقد بلغ عددها حسب ترقيم الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد خمسة آلاف ومائتين وأربعة وسبعين حديثا. وهذا العدد الكبير من أحاديث الأحكام لم يسبق أن جمع في كتاب قبل هـذا الكتاب. وقد قارن الإمام أبو داود بين كتابه من جهة والموطأ وكتابي حماد بن سلمة وابن المبارك من جهة أخرى من حيث السعة، وذكر أن أوسع ذكر لأحاديث السنن لم يصل بها إلا إلى ألف ومائة عند أبي يوسف القاضي ، تلميذ أبي حنيفة .
السنن كتاب أصول المسائل الفقهية
ويكشف لنا أبو داود عن وظيفة مهمة من وظائف كتابه فيقول: (وأما هـذه المسائل - مسائل الثوري ومالك والشافعي - فهذه الأحاديث أصولها) .
منشأ التوسع عند أبي داود
وهذا العدد الكبير من أحاديث الأحكام يرتبط بمنهج الإمام أبي داود في فتح الباب لأحاديث يحتج بها، ويشتد حالها وأمرها بما يقارنها ويعضدها من روايات أخرى، ولو تركت وحدها لردت لضعف رواتها. وقد كان التقسيم قبل أبي داود والترمذي إلى (صحيح وضعيف) ، ثم وجدنا الأمر [ ص: 145 ] عند أبي داود والترمذي بقسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف. والصحيح والحسن في دائرة الاحتجاج والصلوح للأحكام، فكان تعبير أبي داود بـ ( صالح ) وكان تعبير الترمذي بـ (حسن) . وهذا ما نص عليه أبو داود في رسالته فقال: (وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض) [3] . وهذا المنهج توسع فيه الترمذي، وحدد مصطلحاته.
وقال أبو داود أيضا: (وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صالح إلا وهي فيه) [4] ، وهذا سبب آخر من أسباب اتساعه.
الضعيف في السنن
وقد احتوى كتاب السنن على أحاديث ضعيفة، وهذا ما بينه أبو داود، حيث قال: (وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته. ومنه ما لا يصح سنده) [5] . وهذا يعني أنه قد يذكر ما فيه وهن غير شديد، ولا يبينه بالكلام عليه، إلى جانب أن أبا داود يذكر المرسل في كتابه، وقد بين وجهة نظره في المرسل بقوله: (وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي ، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره - رضوان الله عليهم - فإذا لم يكن مسند غير المراسيل ولم يوجد [ ص: 146 ] المسند، فالمرسل يحتج به، وليس هـو مثل المتصل في القوة) [6]
وهذا القول يبين لنا مذهب أبي داود في المرسل ، وأنه بديل عن المسند المتصل عند فقد المسند المتصل، وهذا الذي جعل أبا داود يكثر من المرسل في كتابه. واحتجاجه بالمرسل على هـذا النحو لا يوافق عليه؛ لأن فقدان المتصل لا يبرر قبول المرسل، إلا إذا فهم من كلامه أنه يريد مذهب الشافعي في قبول المرسل بشروط منها: أن يكون المرسل من كبار التابعين، وأن يكون إذا سمى الحلقة المفقودة من السند لا يسمى إلا ثقة، أو أن يأتي بمثله قول لأهل العلم، فعندئذ يحتج بالمرسل، ولكنه لا يصل إلى المتصل في القوة.
دائرة أبي داود في الرجال
لقد اتسعت دائرة الرواية عند أبي داود لاتساع دائرة رجاله؛ فهو يروي عن طبقة من الرجال لا يروي عنها البخاري ومسلم . وقد سبق أن ذكرنا أن الإمام البخاري يروي عن الطبقتين الأولى والثانية، وأن الإمام مسلما يروي عن الطبقة الثالثة بالإضافة إلى الأولى والثانية، وأما أبو داود فهو يروي عن الطبقة الرابعة بالإضافة إلى الطبقات الأولى والثانية والثالثة.
التبويب والتفريع عند أبي داود
امتاز كتاب أبي داود بفن التفريع والتبويب والترجمة، وقد جاء على نحو من التفصيل حتى ساق الأحاديث في دقائق الأحكام؛ ففي كتاب [ ص: 147 ] الأدب عنده مائة وثمانون بابا، ومن هـذه الأبواب: باب في الأرجوحة، باب في اللعب بالحمام، باب في تغيير الأسماء، باب في الألقاب، باب فيمن يتكنى بأبي عيسى، باب في الرجل يتكنى بأبي القاسم، باب من رأى ألا يجمع بينهما، باب في الرخصة في الجمع بينهما، باب في الرجل يتكنى وليس له ولد، باب في المرأة تكنى، باب في المعارض، باب في قول الرجل: زعموا، باب في الرجل يقول في خطبته: أما بعد، باب في الكرم وحفظ المنطق، باب لا يقول المملوك: ربي وربتي، باب ما جاء في البناء، باب في الرجل يقول للرجل: أضحك الله سنك، باب في إطفاء النار بالليل، باب في اتخاذ الغرف.
وخلاصة القول أنك واجد عند أبي داود من تفاصيل السنن القولية والفعلية والتقريرية والصفة النبوية، ما يجعلك تعيش مع السنة في دقائق تفاصيلها؛ ففي هـذا الكتاب هـدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أجلى صوره.
الزيادات اللفظية
ولا يكتفي أبو داود بذكر لفظ رواية من الروايات، وإنما ييسر لنا الوقوف على الزيادات في الروايات، ويكشف لنا عن الفروق بينها [7]
مثال: قال أبو داود: (حدثنا مسدد وسهل بن بكار قالا: (ثنا) أبو عوانة ، (ح) ، وثنا عثمان بن أبي شيبة ، (ثنا) جرير (المعنى) [8] [ ص: 148 ] عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال: ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه ) .
وقال سهل وعثمان : ( ومن دعاكم فأجيبوه ) .
ثم اتفقوا ( ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه ) .
قال مسدد : (فإن لم تجدوا فادعوا الله له حتى تعلموا أن قد كافأتموه) .
تحليل: نلاحظ في رواية أبي داود أنه قد ذكر الحديث من ثلاث روايات: مسدد، وسهل، وعثمان، ثم فصل هـؤلاء الروايات، حيث اتفقت وحيث افترقت، وهذا المنهج يقدم لنا الكثير من الفوائد الحديثية. [ ص: 149 ]