[5] الإمام النسائي ومنهجه
الإمام النسائي - رحمه الله -
: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي [1] (215-303هـ) ، ولد بـ ( نسا ) بنواحي بلخ ، وطلب العلم في صغره، فارتحل إلى قتيبة بن سعيد بن جميل البغلاني ، فأقام عنده ببغلان سنة فأكثر عنه، جال في طلب العلم في خراسان والحجاز ومصر والشام والثغور ، ثم استوطن مصر.
قال ابن الأثير : كان شافعيا ، له مناسك على مذهب الشافعي ، وكان ورعا متحريا، قيل إنه أتى الحارث بن مسكين في زي أنكره، عليه قلنسوة وقباء. وكان الحارث خائفا من أمور تتعلق بالسلطان، فخاف أن يكون عينا عليه، فمنعه، فكان يجيء فيقعد خلف الباب ويسمع، ولذلك ما قال: حدثنا الحارث؛ وإنما كان يقول: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع.
أثنى عليه العلماء وكبار النقاد، فقال الدارقطني : أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره . وقال: كان [ ص: 150 ] أبو بكر بن الحداد الشافعي كثير الحديث، ولم يحدث عن غير النسائي، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى . وقال عنه الدارقطني : كان أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعلمهم بالحديث والرجال. وقال ابن يونس في تاريخ مصر: كان أبو عبد الرحمن النسائي إماما حافظا ثبتا، خرج من مصر في شهر ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثمائة، وتوفي بفلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة .
قال الذهبي : (ولم يكن أحد في رأس الثلاثمائة أحفظ من النسائي ، هـو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم ومن أبي داود ومن أبي عيسى ، وهو جار في مضمار البخاري وأبي زرعة) [2]
صنف الإمام النسائي كتبا قيمة أهمها سننه الكبرى، وهو أصل كتابه (المجتبى) المعروف بسنن النسائي، ويدخل في السنن الكبرى (خصائص علي) و (عمل يوم وليلة) ، وله (كتاب التفسير) في مجلد، و (كتاب الضعفاء) .
منهجه في كتابه السنن
صنف الإمام النسائي كتابه السنن الكبرى، ثم اجتبى منه أو اجتبى غيره منه كتاب (المجتبى من السنن الكبرى) [3] . وقد ظهر منهج الإمام النسائي [ ص: 151 ] في كتابه هـذا، فهو كتاب متخصص في أحاديث الأحكام وليس كتابا جامعا، وهو في هـذه الناحية يشبه كتاب أبي داود ، ويختلف عن كتابي البخاري ومسلم . وقد تضمن المجتبى واحدا وخمسين بابا، وفي هـذه الأبواب من التفاصيل والتفريعات ما لا نجده عند غير النسائي .
مثال: كتاب الاستعاذة: ذكر النسائي خمسة وستين بابا من أبواب الاستعاذة، فقال: باب الاستعاذة من قلب لا يخشع، باب الاستعاذة من فتنة الصدر، باب الاستعاذة من شر السمع والبصر، باب الاستعاذة من الجبن، باب الاستعاذة من البخل، باب الاستعاذة من الهم...إلخ.
وتظهر شخصية النسائي الفقيه القاضي في تفاصيل كتابه، ففي كتاب آداب القضاء يذكر سبعة وثلاثين بابا، يظهر فيها تفنن النسائي وعبقريته: باب حكم الحاكم في داره، باب الاستعداء، باب إشارة الحاكم على الخصم بالصلح، باب إشارة الحاكم على الخصم بالعفو، باب إشارة الحاكم بالرفق، باب منع الحاكم رعيته من إتلاف أموالهم وبهم حاجة إليها.
تكرار الحديث
وقد يكرر الإمام النسائي الحديث مرات كثيرة، وتأتي كل رواية لتوافق عنوان الباب، وظاهرة التكرار عند النسائي تشبه تلك التي عند البخاري ومسلم، مع اختلاف في الأسلوب، فالإمام النسائي يكرر الحديث كله، [ ص: 152 ] بينما يكتفي البخاري بإيراد بعضه، ولا يكرر النسائي الحديث بالإسناد نفسه.
منهج النسائي منهج معلل
ولا يكتفي الإمام النسائي في كثير من الأحيان بذكر الحديث، بل يذكر ما بين الروايات من اختلاف، ويوازن ويقارن، ويذكر العلل، والصحيح، والأصح، والضعيف، والأضعف، ومنهج الإمام النسائي هـذا يأخذ بيد طالب الحديث من بداية العملية الحديثية إلى نهايتها؛ فالنسائي لا يكتفي بتسجيل النتائج كما يفعل الإمامان البخاري ومسلم ، فهما يذكران الحصيلة الصحيحة من الحديث، ولا يذكران شيئا من الحوار حول التصحيح والتضعيف، وكأن هـذين الإمامين يعرضان الحديث في صورته النهائية كما يعرض الصائغ سبائكه الذهبية في خزائن العرض؛ بينما نجد الإمام النسائي كالصانع الذي يأخذ بنا إلى مصنع الصياغة، وهنالك نرى الذهب بأشكاله الأولية، وعبر عملياته التحويلية، حتى يخلص إلى مرحلته النهائية. رجال السنن وأسانيده
الإمام النسائي ناقد متميز، وإمام في الجرح والتعديل والعلل ، وقد ظهر امتيازه هـذا في سننه، فقد جاءت أسانيد كتابه نقية إلى حد كبير، وكان يكشف عن أحوال الرواة - ولا سيما في الفروق الدقيقة بينهم - وقد قسم صاحب شروط الأئمة الستة أحاديث المجتبى إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المخرج في الصحيحين، وهو أكثر كتابه. [ ص: 153 ]
القسم الثاني: الصحيح على شرطهما.
القسم الثالث: أحاديث أبان عن علتها بما يفهمه أهل المعرفة [4]
ولقد تجنب الإمام النسائي التخريج عن رجال خرج لهم البخاري ومسلم وأبو داد ، لما فيهم من التجريح، وقد جمع الإمام الدارقطني أسماء الذين ضعفهم النسائي وأخرج لهم الشيخان في صحيحيهما.
ومن عادته في سننه أن يبين حال الرواة الذين فيهم ضعف، ويغلب على رواياتهم أنها تذكر للتعليل والمقارنة بغيرها، مما هـو أصوب منها، وهذه الميزة لم يتصف بها الصحيحان، وهي مما اتصفت بها سنن أبي داود والترمذي . [ ص: 154 ]