المقدمة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هـالك.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة التاسع عشر (فقه الدعوة - ملامح وآفاق - الجزء الثاني ) في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات برئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر؛ مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، ومحاولة لتجديد أمر الدين، وإعادة تشكيل العقل المسلم الذي افتقد الكثير من الفاعلية والمنهجية والصواب، ليستأنف المسلم دوره، ويقوم بحمل أعباء أمانة الاستخلاف، ويؤدي رسالته مستثمرا إمكاناته الروحية والذهنية والمادية كلها، ويسترد دوره المفقود في القيادة والشهادة.
وقد أشرت في الجزء الأول، بأن الذي نقدمه في هـذا الكتاب بجزئيه هـو مجموعة من الحوارات كنت أجريتها مع بعض القائمين على أمر الدعوة والعمل الإسلامي في مناسبات متعددة ونشرت أصولها في (مجلة الأمة) حول فقه الدعوة والآفاق التي يمكن أن يبلغها الدعاة، وتحديد الموقع الفاعل، من خلال الظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة، في محاولة لتمرين ذهنية مسلم اليوم على اكتساب مجموعة من الخبرات، والتحقق بأكثر من وجهة نظر، والتعرف على أكثر من تجربة، لعل ذلك يغنيه بالتصور الخصب الذي لا بد منه للحكم على الأمور بشكل سليم، وينأى به عن أن يكون نسخة مكررة من حيث الزمان والمكان والحركة والأشخاص، وأن يسقط في حمأة التحزب، الذي ينتهي به إلى التعصب والانغلاق وعدم الإفادة من تجارب الآخرين، والتعرف على
[ ص: 7 ] المذاهب الاجتهادية الأخرى، والمقارنة والمقايسة والترجيح بينها؛ وفقا لما تقتضيه مصلحة المسلمين.
لذلك فقد يكون المطلوب اليوم بإلحاح التوسع كثيرا فيما اصطلح على تسميته بالفقه المقارن في مجال الدراسات الأكاديمية بشكل أخص، لأن ذلك وحده هـو الكفيل بتمرين الذهنية الإسلامية على قبول الرأي الآخر واحترامه، ووأد التعصب المذهبي والحزبي، وتحقيق القناعة بأن الإسلام أوسع كثيرا من الصورة المحدودة التي يقبع وراءها بعض المسلمين اليوم، إضافة إلى ضرورة إجراء الحوار والمقارنات مع الأفكار والتشريعات الأخرى من خارج الدائرة الإسلامية كثمرة للسير في الأرض الذي طلبه الله إلينا، والنظر في التجارب البشرية، وعدم الاقتصار على التجربة الإسلامية؛ لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=69 ( قل سيروا في الأرض فانظروا ) (النمل-69) فالحكمة ضالة المؤمن.
ولعل من القضايا الأساسية التي لا تزال تطرح على الساحة الإسلامية من داخل العمل الإسلامي وخارجه على حد سواء - وإن اختلفت الدوافع - قضية الانتقال من مرحلة المبادئ والشعارات العامة إلى تقديم البرامج، وإيجاد الأوعية الشرعية لحركة المجتمع، والحلول الإسلامية لمشكلاته، حيث لم تعد قضية المبادئ محل نظر ومناقشة، وتكاد تكون من المسلمات.
ومع اعتقادنا بأن الإنسان في عصر التخلف يصبح عاجزا عن الإبصار السليم والإدراك الواعي لأبعاد القضية - والإحساس بالمشكلة شيء والإدراك لها والاهتداء إلى المعالجة الصحيحة شيء آخر - ولو أدركها لا ستطاع مجاوزة التخلف، فقد تكون الغاية من هـذه الحوارات والكتابات الإسلامية بعامة تلمس جوانب المشكلة والتبصير بها، لينبثق من خلال ذلك الجيل القادر على إدراك المشكلة، والاهتداء إلى الحل، وتجاوز مرحلة التخلف، والمساهمة بصياغة التصور والفكر الجماعي أو الفقه الجماعي المؤسسي، وصب الجهد الفردي - أو الاجتهاد والفقه الفردي - في المصب المؤسسي العام، والاجتهاد في وضع البرامج التفصيلية المنضبطة بالقيم الإسلامية.
وقد تبدو الضرورة اليوم -أكثر من أي وقت مضى- في أن يستمر هـذا اللون من التأليف
[ ص: 8 ] والتصنيف؛ شريطة أن يكون ضمن خطة محددة ومدروسة الأبعاد والآثار، تطرح القضايا الأساسية التي تعاني منها الأمة المسلمة على مستوياتها المختلفة، للوصول إلى الرؤية المشتركة، واستطلاع الواقع الفكري والثقافي الذي يمنح المهتمين بالقضية الإسلامية التصور الذي يمكنهم من الحكم على المستجدات والمتغيرات، والاهتداء إلى سبيل الخروج من الأزمة وإصلاح الخلل، وتجنب العثرات التي لحقت ببعض التجارب في الماضي، ذلك أن هـذا اللون من الشورى واستطلاع الرأي؛ إضافة إلى ضرورته لإزالة السدود النفسية بين المسلمين، والقضاء على نزعات التعصب والتحزب التي قد تحمي غير الأكفاء، وتسمح بنمو واستمرار بعض الأفكار المعوجة التي تعوزها المناقشة، وتحرم العمل من إمكانات مقدورة، فهو يضيف أعمارا إلى عمرنا، وعقولا ورؤى إضافية إلى عقلنا، ويحقق لنا العبرة والدرس لمستقبل مسيرتنا.
وهنا قضية لا بد من الإشارة إليها في هـذه المقدمة: وهي أن الذين يمتلكون الحق في المساهمة بهذا اللون من الحوار والاجتهاد والنظر، هـم العلماء العدول الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
( يحمل هـذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ) ؛ لأنهم المؤهلون والقادرون على النظر والتقويم الذي يصوب حركة الأمة، وليس من لا فقه لهم من المتعصبين وبعض الكتاب وبعض الصحفيين الذين يقحمون أنفسهم في مثل هـذه القضايا دون أن يمتلكوا البضاعة الكافية، والمؤهلات الشرعية المطلوبة؛ لأنهم بذلك يزيدون الأمر خبالا، مهما حملت عناوين كتاباتهم من الإثارة الصحفية، وأغرت جماهير المسلمين بقراءتها.
ولنا في سيرة سلفنا الصالح، وميراثنا الثقافي في فترات التألق والإبداع خير مثال يحتذى؛ فقد كان كسبهم الاجتهادي في إطار التنوع والتعدد والإخصاب والتعاون، ولم يكن مجالا للصراع والاختلاف والافتراق والتضاد، وما المذاهب الفقهية الاجتهادية في حقيقتها إلا مدارس فكرية متنوعة، بذل أصحابها جهدهم للوصول إلى الحكم الشرعي مستنبطا من الكتاب والسنة، وإن انتهت على يد بعض أتباعها من المقلدة والعوام
[ ص: 9 ] ممن لا فقه لهم إلى لون من الانغلاق والتحزب والتعصب، والبعد عن روح الحوار وأدب الاختلاف. وقد لا تكون الإصابة بالنسبة للعقل المسلم في إغلاق باب الاجتهاد فقط، ومصادرة أي تفكير أو اجتهاد جديد ؛ وإنما في التعصب المذهبي الذي يعني - فيما يعني - حرمان المسلم من أكثر من تسعة أعشار ميراثه الفكري.
ومع اعترافنا بضرورة الاجتهاد في تقديم البرامج وإيجاد الحلول للمشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية على مختلف الأصعدة، وأهمية النزول إلى الميدان، واكتساب فقه الحركة، والتعرف على واقع الناس، وعدم الاكتفاء بالحديث العام عن المبادئ والقيم الإسلامية التي أصبحت من المسلمات كما أسلفنا؛ ذلك أن الاستمرار في الحديث عن المبادئ العامة في الخطب والأحاديث ووسائل الإعلام ودروس الوعظ، بعيدا عن معاناة الأمة، وتقديم الحلول الإسلامية لها، يخشى أن يساهم سلبيا في التقليل من قيمة هـذه المبادئ، وقدرتها على الإنقاذ للواقع، ومن ثم العزوف عنها بحجة أنها مثالية غير قابلة للتطبيق، وعلى الرغم من أن الكثير من هـذه المشكلات جاء نتيجة لتطبيق أنظمة غير إسلامية؛ إلا أن المسلمين بحاجة دائما لمعرفة كيفية التعامل مع هـذه المشكلات من المنظور الإسلامي - ريثما تتاح لهم الفرصة ليأخذوا أنفسهم بالإسلام كاملا - وهنا حقيقة لا بد من أن نتوقف عندها بالقدر الذي تسمح به هـذه المقدمة:
لقد كثر في الفترات الأخيرة الهجوم على دعاة الإسلام ونقد أهل الصحوة الإسلامية، واتهامهم بأنهم يفتقدون الخطط والبرامج التي تنظم شئون المجتمع والدولة بمؤسساتها المختلفة، وأنهم ينطلقون من فراغ ومن تعميمات لم تعد صالحة لحكم الحياة وتنظيم شئونها، إلى آخر هـذه النغمة التي لا يزال أصحابها يبدءون فيها ويعيدون، والسؤال المطروح على هـؤلاء الذين يدعون العلمية، ويتصنعون الموضوعية والانفتاح على الثقافات العالمية - إلا الثقافة الإسلامية طبعا - ويعلنون الغيرة على مصلحة الأمة ومستقبلها:
أين برامجهم وخططهم الذاتية التي يتقدمون بها لحل مشكلات الأمة والنهوض بها من وهدة التخلف؟ اللهم لا جواب؛ إلا إذا كان الجواب هـو المزيد من الاستيراد للبرامج
[ ص: 10 ] التي لا تزال توقع الأمة بإشكالات، وتحول دون تحققها بالحلول الصحيحة، وحسبهم في ذلك معرة أنهم يقفون على أقدام غيرهم، ويعيشون حالة من الاغتراب لا يحسدون عليها، ويعجزون عن توليد البرامج واستنباتها من خلال الشخصية الحضارية التاريخية وملاحظة المعادلة النفسية والاجتماعية للأمة. فهم يعيشون الاغتراب الحضاري والثقافي باسم الحداثة، وعذرهم أنهم لا يعرفون من الإسلام إلا بعض العموميات، ويفتقدون في سلوكهم لأبسط المعاني الإسلامية، إنهم وجدوا في الاستيراد البديل الأسهل، ظنا منهم أنه قادر على حل المشكلة، لكنه في الحقيقة والواقع لم يزدها إلا تعقيدا لأنه يقدم الصورة ويسلب الحقيقة.
والمنتمون للإسلام الملتزمون به هـم المهيئون دون غيرهم لتقديم البرامج القادرة على استيعاب حركة المجتمع؛ بسبب رصيدهم الفقهي وميراثهم الثقافي وتجربتهم التاريخية، وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، لكن هـذا الرصيد سوف ينقلب إلى عبء إذا لم يتدارك المسلمون الأمر، ويستشرفوا آفاق المستقبل، وينزلوا إلى الساحة، ويقدموا الاجتهاد المطلوب لحركة الحياة، ولا شك عندنا أن الفكر شرط الفاعلية والفعل وأن الفعل يستدعي الفكر، لذلك فإن عمليات التفاكر والحوار والفقه الميداني هـي الطريق المأمون إلى تحقيق الخصوبة المطلوبة والشرط الضروري للنهوض.
ومع إيماننا بضرورة وجود النماذج الذين يتمثلون الإسلام ويجسدونه في حياتهم ويمثلون الطائفة القائمة على الحق، والخلف العدول الذين يحملون العلم ليكونوا محل الأسوة والقدوة للجيل، إلا أنه لا بد من إيضاح هـذه النقطة؛ فمما لا شك فيه أن الأشخاص والأسماء والجماعات والجمعيات والحكومات إنما هـي وسائل لتحقيق كسب أكبر للدعوة الإسلامية، وإثارة الاقتداء، والتعاون على البر والتقوى، والتدريب على المعاني والأخلاق الإسلامية، والخروج بالناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. وليست غايات بحد ذاتها، ومن ثم فالعمل الإسلامي والدعوة إلى الله والعاملون للإسلام ليسوا إقطاعات بشرية يمكن أن توظف لفلان هـذا أو فلان ذاك، بل نستطيع أن نقول بأن الإسلام أصر على ربط المسلم بالمنهج ولم يربطه بشخص فالله سبحانه يقول:
[ ص: 11 ] nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144 ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ... ) ( آل عمران:144) .
وقد " قال
أبو بكر رضي الله عنه في أول قيادته لمجتمع المسلمين: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " ، وعد الرسول من السبعة الذين يظلهم الله في ظله:
( ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ) وقد " سئل
سيدنا علي رضي الله عنه عن أهل الحق وأهل الباطل - زمن الفتنة - فقال: اعرف الحق تعرف أهله " ، والمتأمل في القيم والحضارة الإسلامية يرى أنها اهتمت بمعاني البطولة وقدرتها، أكثر من اهتمامها بصفات البطل الخلقية، وحصر تلك المعاني في شخصه ليكون ذلك مجالا للترقي وفي متناول الجميع، فإذا ذكر
عمر ذكر العدل، وإذا ذكر
خالد رضي الله عنه ذكرت الشجاعة والبلاء في سبيل الله، وما إلى ذلك، على الرغم من ضرورة أن تتمثل معاني البطولة وتتجسد في أشخاص لتصبح قابلة للتطبيق، إلا أن الارتباط بالمنهج والمعنى والحق هـو الأساس، وليس الأشخاص - خاصة الأحياء منهم - الذين لا تؤمن عليهم الفتنة والسقوط في الخطأ.
وبعد: فلا شك أن هـناك مدارس فكرية مقدورة ومواقع أخرى على ساحة العمل لم تأخذ نصيبها من هـذا الحوار - على أهميتها وضرورتها من الناحية الفكرية والجغرافية لأنها تشكل إضافات أساسية - ولعل فرصة تتاح مستقبلا للاستمرار في هـذا اللون من العمل للقضية الإسلامية.
والله نسأل أن يلهمنا الإخلاص في العمل، والصواب في الخطة والرأي، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الدوحة في 14 شوال 1408 هـ
عمر عبيد حسنة
[ ص: 12 ]
المقدمة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هـالك.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة التاسع عشر (فقه الدعوة - ملامح وآفاق - الجزء الثاني ) في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات برئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر؛ مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، ومحاولة لتجديد أمر الدين، وإعادة تشكيل العقل المسلم الذي افتقد الكثير من الفاعلية والمنهجية والصواب، ليستأنف المسلم دوره، ويقوم بحمل أعباء أمانة الاستخلاف، ويؤدي رسالته مستثمرًا إمكاناته الروحية والذهنية والمادية كلها، ويسترد دوره المفقود في القيادة والشهادة.
وقد أشرت في الجزء الأول، بأن الذي نقدمه في هـذا الكتاب بجزئيه هـو مجموعة من الحوارات كنت أجريتها مع بعض القائمين على أمر الدعوة والعمل الإسلامي في مناسبات متعددة ونشرت أصولها في (مجلة الأمة) حول فقه الدعوة والآفاق التي يمكن أن يبلغها الدعاة، وتحديد الموقع الفاعل، من خلال الظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة، في محاولة لتمرين ذهنية مسلم اليوم على اكتساب مجموعة من الخبرات، والتحقق بأكثر من وجهة نظر، والتعرف على أكثر من تجربة، لعل ذلك يغنيه بالتصور الخصب الذي لا بد منه للحكم على الأمور بشكل سليم، وينأى به عن أن يكون نسخة مكررة من حيث الزمان والمكان والحركة والأشخاص، وأن يسقط في حمأة التحزب، الذي ينتهي به إلى التعصب والانغلاق وعدم الإفادة من تجارب الآخرين، والتعرف على
[ ص: 7 ] المذاهب الاجتهادية الأخرى، والمقارنة والمقايسة والترجيح بينها؛ وفقًا لما تقتضيه مصلحة المسلمين.
لذلك فقد يكون المطلوب اليوم بإلحاح التوسع كثيرًا فيما اصطلح على تسميته بالفقه المقارن في مجال الدراسات الأكاديمية بشكل أخص، لأن ذلك وحده هـو الكفيل بتمرين الذهنية الإسلامية على قبول الرأي الآخر واحترامه، ووأد التعصب المذهبي والحزبي، وتحقيق القناعة بأن الإسلام أوسع كثيرًا من الصورة المحدودة التي يقبع وراءها بعض المسلمين اليوم، إضافة إلى ضرورة إجراء الحوار والمقارنات مع الأفكار والتشريعات الأخرى من خارج الدائرة الإسلامية كثمرة للسير في الأرض الذي طلبه الله إلينا، والنظر في التجارب البشرية، وعدم الاقتصار على التجربة الإسلامية؛ لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=69 ( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا ) (النمل-69) فالحكمة ضالة المؤمن.
ولعل من القضايا الأساسية التي لا تزال تطرح على الساحة الإسلامية من داخل العمل الإسلامي وخارجه على حدّ سواء - وإن اختلفت الدوافع - قضية الانتقال من مرحلة المبادئ والشعارات العامة إلى تقديم البرامج، وإيجاد الأوعية الشرعية لحركة المجتمع، والحلول الإسلامية لمشكلاته، حيث لم تعد قضية المبادئ محل نظر ومناقشة، وتكاد تكون من المسلمات.
ومع اعتقادنا بأن الإنسان في عصر التخلف يصبح عاجزًا عن الإبصار السليم والإدراك الواعي لأبعاد القضية - والإحساس بالمشكلة شيء والإدراك لها والاهتداء إلى المعالجة الصحيحة شيء آخر - ولو أدركها لا ستطاع مجاوزة التخلف، فقد تكون الغاية من هـذه الحوارات والكتابات الإسلامية بعامة تلمّس جوانب المشكلة والتبصير بها، لينبثق من خلال ذلك الجيل القادر على إدراك المشكلة، والاهتداء إلى الحل، وتجاوز مرحلة التخلف، والمساهمة بصياغة التصور والفكر الجماعي أو الفقه الجماعي المؤسسي، وصب الجهد الفردي - أو الاجتهاد والفقه الفردي - في المصب المؤسسي العام، والاجتهاد في وضع البرامج التفصيلية المنضبطة بالقيم الإسلامية.
وقد تبدو الضرورة اليوم -أكثر من أي وقت مضى- في أن يستمر هـذا اللون من التأليف
[ ص: 8 ] والتصنيف؛ شريطة أن يكون ضمن خطة محددة ومدروسة الأبعاد والآثار، تطرح القضايا الأساسية التي تعاني منها الأمة المسلمة على مستوياتها المختلفة، للوصول إلى الرؤية المشتركة، واستطلاع الواقع الفكري والثقافي الذي يمنح المهتمين بالقضية الإسلامية التصور الذي يمكنهم من الحكم على المستجدات والمتغيرات، والاهتداء إلى سبيل الخروج من الأزمة وإصلاح الخلل، وتجنب العثرات التي لحقت ببعض التجارب في الماضي، ذلك أن هـذا اللون من الشورى واستطلاع الرأي؛ إضافة إلى ضرورته لإزالة السدود النفسية بين المسلمين، والقضاء على نزعات التعصب والتحزب التي قد تحمي غير الأكفاء، وتسمح بنمو واستمرار بعض الأفكار المعوجة التي تعوزها المناقشة، وتحرم العمل من إمكانات مقدورة، فهو يضيف أعمارًا إلى عمرنا، وعقولًا ورؤىً إضافية إلى عقلنا، ويحقق لنا العبرة والدرس لمستقبل مسيرتنا.
وهنا قضية لا بد من الإشارة إليها في هـذه المقدمة: وهي أن الذين يمتلكون الحق في المساهمة بهذا اللون من الحوار والاجتهاد والنظر، هـم العلماء العدول الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
( يحمل هـذا العلم من كل خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ) ؛ لأنهم المؤهلون والقادرون على النظر والتقويم الذي يصوّب حركة الأمة، وليس من لا فقه لهم من المتعصبين وبعض الكتاب وبعض الصحفيين الذين يقحمون أنفسهم في مثل هـذه القضايا دون أن يمتلكوا البضاعة الكافية، والمؤهلات الشرعية المطلوبة؛ لأنهم بذلك يزيدون الأمر خبالًا، مهما حملت عناوين كتاباتهم من الإثارة الصحفية، وأغرت جماهير المسلمين بقراءتها.
ولنا في سيرة سلفنا الصالح، وميراثنا الثقافي في فترات التألق والإبداع خير مثال يحتذى؛ فقد كان كسبهم الاجتهادي في إطار التنوع والتعدد والإخصاب والتعاون، ولم يكن مجالًا للصراع والاختلاف والافتراق والتضاد، وما المذاهب الفقهية الاجتهادية في حقيقتها إلا مدارس فكرية متنوعة، بذل أصحابها جهدهم للوصول إلى الحكم الشرعي مستنبطًا من الكتاب والسنة، وإن انتهت على يد بعض أتباعها من المقلدة والعوام
[ ص: 9 ] ممن لا فقه لهم إلى لون من الانغلاق والتحزب والتعصب، والبعد عن روح الحوار وأدب الاختلاف. وقد لا تكون الإصابة بالنسبة للعقل المسلم في إغلاق باب الاجتهاد فقط، ومصادرة أي تفكير أو اجتهاد جديد ؛ وإنما في التعصب المذهبي الذي يعني - فيما يعني - حرمان المسلم من أكثر من تسعة أعشار ميراثه الفكري.
ومع اعترافنا بضرورة الاجتهاد في تقديم البرامج وإيجاد الحلول للمشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية على مختلف الأصعدة، وأهمية النزول إلى الميدان، واكتساب فقه الحركة، والتعرف على واقع الناس، وعدم الاكتفاء بالحديث العام عن المبادئ والقيم الإسلامية التي أصبحت من المسلمات كما أسلفنا؛ ذلك أن الاستمرار في الحديث عن المبادئ العامة في الخطب والأحاديث ووسائل الإعلام ودروس الوعظ، بعيدًا عن معاناة الأمة، وتقديم الحلول الإسلامية لها، يُخشى أن يساهم سلبيًا في التقليل من قيمة هـذه المبادئ، وقدرتها على الإنقاذ للواقع، ومن ثم العزوف عنها بحجة أنها مثالية غير قابلة للتطبيق، وعلى الرغم من أن الكثير من هـذه المشكلات جاء نتيجة لتطبيق أنظمة غير إسلامية؛ إلا أن المسلمين بحاجة دائمًا لمعرفة كيفية التعامل مع هـذه المشكلات من المنظور الإسلامي - ريثما تتاح لهم الفرصة ليأخذوا أنفسهم بالإسلام كاملًا - وهنا حقيقة لا بد من أن نتوقف عندها بالقدر الذي تسمح به هـذه المقدمة:
لقد كثر في الفترات الأخيرة الهجوم على دعاة الإسلام ونقد أهل الصحوة الإسلامية، واتهامهم بأنهم يفتقدون الخطط والبرامج التي تنظم شئون المجتمع والدولة بمؤسساتها المختلفة، وأنهم ينطلقون من فراغ ومن تعميمات لم تعد صالحة لحكم الحياة وتنظيم شئونها، إلى آخر هـذه النغمة التي لا يزال أصحابها يبدءون فيها ويعيدون، والسؤال المطروح على هـؤلاء الذين يدعون العلمية، ويتصنعون الموضوعية والانفتاح على الثقافات العالمية - إلا الثقافة الإسلامية طبعًا - ويعلنون الغيرة على مصلحة الأمة ومستقبلها:
أين برامجهم وخططهم الذاتية التي يتقدمون بها لحل مشكلات الأمة والنهوض بها من وهدة التخلف؟ اللهم لا جواب؛ إلا إذا كان الجواب هـو المزيد من الاستيراد للبرامج
[ ص: 10 ] التي لا تزال توقع الأمة بإشكالات، وتحول دون تحققها بالحلول الصحيحة، وحسبهم في ذلك معرة أنهم يقفون على أقدام غيرهم، ويعيشون حالة من الاغتراب لا يحسدون عليها، ويعجزون عن توليد البرامج واستنباتها من خلال الشخصية الحضارية التاريخية وملاحظة المعادلة النفسية والاجتماعية للأمة. فهم يعيشون الاغتراب الحضاري والثقافي باسم الحداثة، وعذرهم أنهم لا يعرفون من الإسلام إلا بعض العموميات، ويفتقدون في سلوكهم لأبسط المعاني الإسلامية، إنهم وجدوا في الاستيراد البديل الأسهل، ظنًّا منهم أنه قادر على حل المشكلة، لكنه في الحقيقة والواقع لم يزدها إلا تعقيدًا لأنه يقدم الصورة ويسلب الحقيقة.
والمنتمون للإسلام الملتزمون به هـم المهيئون دون غيرهم لتقديم البرامج القادرة على استيعاب حركة المجتمع؛ بسبب رصيدهم الفقهي وميراثهم الثقافي وتجربتهم التاريخية، وصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، لكن هـذا الرصيد سوف ينقلب إلى عبء إذا لم يتدارك المسلمون الأمر، ويستشرفوا آفاق المستقبل، وينزلوا إلى الساحة، ويقدموا الاجتهاد المطلوب لحركة الحياة، ولا شك عندنا أن الفكر شرط الفاعلية والفعل وأن الفعل يستدعي الفكر، لذلك فإن عمليات التفاكر والحوار والفقه الميداني هـي الطريق المأمون إلى تحقيق الخصوبة المطلوبة والشرط الضروري للنهوض.
ومع إيماننا بضرورة وجود النماذج الذين يتمثلون الإسلام ويجسدونه في حياتهم ويمثلون الطائفة القائمة على الحق، والخلف العدول الذين يحملون العلم ليكونوا محل الأسوة والقدوة للجيل، إلا أنه لا بد من إيضاح هـذه النقطة؛ فمما لا شك فيه أن الأشخاص والأسماء والجماعات والجمعيات والحكومات إنما هـي وسائل لتحقيق كسب أكبر للدعوة الإسلامية، وإثارة الاقتداء، والتعاون على البر والتقوى، والتدريب على المعاني والأخلاق الإسلامية، والخروج بالناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. وليست غايات بحد ذاتها، ومن ثم فالعمل الإسلامي والدعوة إلى الله والعاملون للإسلام ليسوا إقطاعات بشرية يمكن أن توظّف لفلان هـذا أو فلان ذاك، بل نستطيع أن نقول بأن الإسلام أصر على ربط المسلم بالمنهج ولم يربطه بشخص فالله سبحانه يقول:
[ ص: 11 ] nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=144 ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ... ) ( آل عمران:144) .
وقد " قال
أبو بكر رضي الله عنه في أول قيادته لمجتمع المسلمين: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " ، وعدّ الرسول من السبعة الذين يظلهم الله في ظله:
( ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وافترقا عليه ) وقد " سئل
سيدنا علي رضي الله عنه عن أهل الحق وأهل الباطل - زمن الفتنة - فقال: اعرف الحق تعرف أهله " ، والمتأمل في القيم والحضارة الإسلامية يرى أنها اهتمت بمعاني البطولة وقدرتها، أكثر من اهتمامها بصفات البطل الخلقية، وحصر تلك المعاني في شخصه ليكون ذلك مجالًا للترقي وفي متناول الجميع، فإذا ذكر
عمر ذكر العدل، وإذا ذكر
خالد رضي الله عنه ذكرت الشجاعة والبلاء في سبيل الله، وما إلى ذلك، على الرغم من ضرورة أن تتمثل معاني البطولة وتتجسد في أشخاص لتصبح قابلة للتطبيق، إلا أن الارتباط بالمنهج والمعنى والحق هـو الأساس، وليس الأشخاص - خاصة الأحياء منهم - الذين لا تؤمن عليهم الفتنة والسقوط في الخطأ.
وبعد: فلا شك أن هـناك مدارس فكرية مقدورة ومواقع أخرى على ساحة العمل لم تأخذ نصيبها من هـذا الحوار - على أهميتها وضرورتها من الناحية الفكرية والجغرافية لأنها تشكل إضافات أساسية - ولعل فرصة تتاح مستقبلًا للاستمرار في هـذا اللون من العمل للقضية الإسلامية.
والله نسأل أن يلهمنا الإخلاص في العمل، والصواب في الخطة والرأي، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الدوحة في 14 شوال 1408 هـ
عمر عبيد حسنة
[ ص: 12 ]