( 3 )
لكأن كل واحد منهم يتساءل، بعد كل صنوف الإشباع، والتكاثر الشيئي، والتطمين الخدمي والاجتماعي: وماذا بعد؟
إنها رحلة الليل والنهار، وحصارها المخيف.. لفها الذي لا يرحم، وروتينها القاسي، الذي يمسك بتلابيب الإنسان.. ولن تكون كل صنوف الإشباع والتيسير، إزاء هـذا كله، قادرة على أن تفعل شيئا، لإنقاذ الإنسان.. لمنحه جديدا .. للمضي به أبعد قليلا من موطئ قدميه، حيث يأكل، ويشرب، ويتلذذ، ويجامع، ويتكاثر.. وينام.
إن الاستجابة لمطالب الحس، يمنح الإنسان شيئا من التوازن، لكنه إن لم يقترن، بتحفيز مطالب الروح، والاستجابة لها، فإن شرخا محزنا، سيشطر الإنسان، وسيجعله - في نهاية الأمر - يتضاءل، وينكمش، على مساحة محدودة من حياته البشرية لا تتجاوز دائرتي العقل والحس، ومن ثم يحجم، ويصغر، ويفقد الكثير من أبعاد بشريته، فيعيشها في أضيق نطاق، وما تلبث الحياة، أن تتكشف عن انحسار، وخواء محزنين، وأنها بأمس الحاجة إلى عمقها الضائع، وبعدها المفقود، لكي تستحق أن تعاش. [ ص: 38 ]
إن عبارة: (ماذا بعد؟ ماذا لو ربح الإنسان العالم، وخسر نفسه؟) التي صاغها، وطرحها، كل المنشقين على حضارة الحس، والتكاثر، والتيسير المادي.. كل الرافضين لضياع عمقها الحقيقي.. كل اللامنتمين إلى مسيرتها المتضحلة، الخالية من أي هـدف، أو مغزى كبير.. هـذه العبارة تختصر المعضلة كلها. إذ أنه بدون أهداف بعيدة، تتجاوز القريب.. بدون آمال كبيرة، تعبر المنظور والملموس.. بدون إيمان عميق، بحياة وراء هـذه الحياة، وعالم خلف هـذا العالم.. بدون توجه إلى الله الواحد، جل في علاه.. فلن تكون الحياة، سوى رحلة قصيرة، تتكشف سريعا، عن نهايتها المحدودة، حيث يتبدى للإنسان، أن لا شيء يستحق أن يعاش من أجله! إن الغربيين بحاجة إلى بطانة، إلى عمق روحي، يضاف إلى نسيج علاقاتهم المتفوقة، في امتدادها الأفقي.. وحينذاك - فقط - يمكن أن يستعيدوا سعادتهم الضائعة، التي هـي أعذب بكثير، وأعمق بكثير، من كل صنوف الإشباع والتيسير، والتطمين!.