( 4 )
إن منطق الحياة البشرية، ووضعها الصحيح في العالم، يقتضيان توازنا.. يقتضيان تلبية لكل الأشواق، وتغطية لكافة المطالب الجسدية، والحسية، والعقلية، والوجدانية، والعاطفية، والروحية. وكل محاولة لاقتحام هـذه الحالة، وتمزيق خيوطها، وإحراق، أو تجميد جانب منها.. كل عبث بمقدرات الإنسان، وغاية وجوده في الأرض، سيؤول إلى الانحراف والانحسار، والميل، والتضحل، وسيكون في نهاية الأمر، خسارة للحياة البشرية، ولا يمكن - بحال من الأحوال - أن يكون ربحا للإنسان، بل إنه سيحمل الحياة حشودا من المتاعب، والتناقضات، والآلام، والتعاسات، والأحزان. [ ص: 39 ]
إنها أشبه بدخول مجموعة من الصبيان العابثين، محطة كبرى للطاقة الكهربائية، ومحاولة تشغيلها، بعد سلسلة من التبديل، والتغيير، والعبث بأجزائها وأسلاكها المتشابكة.. إنها حينذاك لا تمنح إنارة، أو هـي قد تمنحها، ولكنها ستقترن بمخاطر، قد تودي بالمدينة، التي أريد إضاءتها في الأساس. فإذا كانت الحياة الغربية، قد تفوقت، في تغطيتها للمطالب الحيوية على السطح.. في دائرة العلاقات والإنجاز الفني،والمادي، والتنظيمي، فإنها سجلت - بتبديلها فطرة الله، التي فطر الناس عليها، أو تجاهل مكوناتها وطبقاتها - إخفاقا ذريعا.. إنها لم تنزل إلى العمق الروحي، لتلبية الحاجات، الأكثر دواما وعمقا. ولقد كانت نتائج هـذا التضحل والانحراف، خطيرة شاملة على الحياة الغربية، وفي أكثر من اتجاه.. هـذه النتائج، التي تعبر عن نفسها وضغوطها، من خلال حركات التسيب الأخلاقي، والفلت الاجتماعي، والبوهيمية التي تكتسح الشباب، في شكل موجات متعاقبة، فتطردهم من مجرى العلاقات الاجتماعية المنتجة، وتصيب بالشلل، قدرتهم على العطاء والإبداع، الأمر الذي دفع ساسة مثل (كندي) في أمريكا، و (خروتشوف) في الاتحاد السوفييتي (سابقا) ، إلى التنبيه المبكر، على خطورة هـذه التوجهات، وتأثيرها السيئ على معدلات النمو الحضاري. وتعبر عن نفسها حينا آخر، بمحاولات الهروب، عن طريق المخدرات، وأقراص تدمير الجملة العصبية، ووقفها عن العمل، أو باللجوء إلى العنف والجريمة، والشذوذ الجنسي، أو بالانتحار.. وهي حالات تتزايد باستمرار، على مستويي الكم والنوع، وكأنها تقضم الحياة الغربية، وتدمر نسيجها المتميز الباهر. وهذه الممارسات المدمرة، تنداح باستمرار، لكي تتسع دائرتها من خلال التحول، من الفردي إلى الجماعي، ومن الصيغ البسيطة في التنفيذ والممارسة، [ ص: 40 ] إلى صيغ أشد فاعلية وتعقيدا، بل إنها لتمضي، لكي تشكل علاقات حماية وصمامات أمان، مع بعض المؤسسات والأشخاص، الذين يتربعون القمة في المجتمعات الغربية، فيفضح بعضهم، ويظل أكثرهم متخفين. وهم في الأحوال كلها، يزيدون من تأثير هـذه الممارسات الشاذة، وفاعليتها في تدمير الحياة الغربية، وإلحاق الخسائر الجسيمة بها، سواء على مستوى القاعدة أم القمة. وهذه الممارسات التي تشكل بقعا سوداء كالبثور، تغطي الوجه الجميل للحياة الغربية، أصبحت كبقع الزيت، تزداد انتشارا وسوءا، كلما تحركت إلى مساحات جديدة، وانداحت إلى أماكن، ما خطرت على بال أحد. وبسهولة بالغة، أصبح بمقدور أي متابع لمعطيات الحياة الغربية، حتى وهو قاعد في بلده، لا يتكلف عناء السفر إلى هـناك، أن يرى ويلمس، حشودا من هـذه الممارسات، التي تكتسح الشارع الغربي، وتمضي إلى البيوت، والأسواق، والمصارف، والمؤسسات، والدوائر العليا.. يلمسها ويراها في الصحيفة، والمجلة، والراديو، والتلفزيون، والسينما، وفي كل ما يسمى بالإعلام المقروء، أو المسموع، أو المنظور. بل إنه يستطيع وهو جالس في بيته، في أقصى مدينة (متخلفة) ، من مدن (العالم الثالث) ، أن يرى ما الذي يجري في البلدان المتقدمة، وأن يتوقع ما الذي سيفعله، هـذا السرطان الذي تكشف عن (الإيدز) ، وحشود من الويلات الأخرى، في نسيج الحياة الغربية في مستقبل قريب أو بعيد. إنه فضلا عن تدمير الإنسان الغربي، وتفكيك روابطه الاجتماعية، واستلاب أمنه، وتوحده، وسعادته، ينعكس سلبا، وبشكل متزايد، على معدلات الإنجاز، والعلاقات الأفقية العامة، التي تمثل نقطة التألق في المدنية الغربية، فأخذت تفقد الكثير من عناصر ضبطها، وثقلها، وديمومتها، وازدهارها، من مثل الأمانة، والصدق، والإتقان، والأمن، والسلام الاجتماعي.. [ ص: 41 ]