تقديم : عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، المبين عن ربه ما نزل إليه، الهادي إلى الصراط المستقيم، وبعد :
فهذا الكتاب السادس والستون: (الاجتهاد المقاصدي.. حجيته، ضوابطه، مجالاته ) الجزء الثاني، للدكتور نور الدين بن مختار الخادمي ، في سلسلة (كتاب الأمة) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، واسترداد فاعلية الأمة، وإحياء وعي المسلم برسالته ودوره في إلحاق الرحمة بالعالمين، وقيادة الناس إلى الخير، وحل المعادلة التي كادت تبدو على غاية من الصعوبة في تاريخ التدين، بين هدايات الوحي، ومكتسبات العقل، وإطلاق الفكر ليعود حرا معافى قادرا على الاجتهاد والتوليد، وتعدية الرؤية والامتداد بخلود الشريعة وتجريدها من حدود الزمان والمكان، وتحقيق هذا الخلود في حياة الناس، فكرا وفعلا، فقها وتنزيلا، في إطار مرجـعية الوحي وفهم [ ص: 9 ] القرون الأولى المشهود لها بالخيرية من المعصوم، وإعادة تأسيس وتأصيل الرؤية الإسلامية لمسألة القدر والحرية والوحي والعقل، والدين والعلم، وعالم الغيب وعالم الشهادة، والسنن الجارية في الحياة والأحياء والمعجزات والسنن الخارقة، وموقع الإنسان كمخلوق مكلف مكرم.
ولعل من الأهمية بمكان العودة إلى الانطلاق من معرفة الوحي كإطار مرجعي وضابط منهجي لمعرفة العقل، وتخليص الدين والتدين من التأويل الجاهل والانتحال الباطل والتحريف المغالي، وتصويب قضية التدين، ونفي نوابت السوء، وتقويم السلوك الفردي والاجتماعي بقيم الكتاب والسنة، والاعتبار بعلل التدين التي لحقت بالأمم السابقة فكانت سبب انقراضها، وبناء العقل القاصد الناقد القادر على التحليل والاجتهاد والاستقراء والاستنتاج والتقويم والمراجعة في ضوء معايير الوحي المعصومة، وامتلاك القدرة على التعامل مع المتغيرات الدولية المتسارعة، والتقنيات الإعلامية المتوفرة، والمعلومات الكبيرة المتدفقة، والمعارف الإنسانية المتيسرة، من خلال القيم الإسلامية الخالدة.
إن حملة القيم الإسلامية إذا لم يكونوا قادرين على استيعاب حركة العصر وكيفية التعامل معه من خلال هذه القيم الخالدة، وتنزيلها على الواقع وتقويمه بها، تصبح دعواهم الخلود لرسالته دعوى بلا دليل [ ص: 10 ] مهما حاولوا الاحتماء بالتاريخ والتفاخر بالإنجاز الفقهي والفكري والحضاري التاريخي.
ومفتاح ذلك كله - في نظري - هو بذل الجهد للتحول بالعقل المسلم من حالة التلقين إلى مرحلة التفكير، ومن التقليد إلى التوليد والاجتهاد، ومن التفسير والتلقي إلى التحليل والنقد والاستيعاب، وهذا يقتضي إعادة النظر بجرأة وشجاعة بالنظام المعرفي والتربوي، وتحليل أدواته ومجالاته في الأسرة والمدرسة والمسجد والنادي ووسائل الإعلام وكل موارد التشكيل الثقافي، لأن المنتجات المتحصلة من هذه الأدوات وهذه الأنظمـة المعرفيـة والتربويـة تعتبـر أكبـر شاهـد إدانـة للحـال التـي نحن عليها.
إن الوصول إلى امتلاك هذا المفتاح القادر على تفكيك ذلك كله - تفكيك قيود التخلف، والعودة بالعقل إلى الوحي، ومن ثم الانطلاق منه إلى ميادين الحياة وشعب المعرفة جميعا لتنزيل قيم الدين على الحياة، وممارسة النمو والإبداع - إنما يكون بإحياء فكرة فروض الكفاية الشرعية، والتحقق بالتخصصات المطلوبة، وذلك لتحقيق الكفاية أو الاكتفاء الذاتي .. وليس ذلك فقط، وإنما امتلاك القدرة على العطاء العالمي المتميز، الذي يساهم بتعبيد الناس لله رب العالمين، ويلحق [ ص: 11 ] الرحمة بهم، ويوجه العلم صوب أهدافه، ويحميه من التحول إلى أداة للتسلط والاستعباد.
ولعلنا نقول : لقد آن الآوان لمراجعة جريئة وقاصدة وناقدة - تعيد الحق إلى نصابه، وتبني العقل المؤمن بأهمية التخصص، المستشعر أن التخصص من فرائض الدين - لهذه الرحلة الشاقة والمكلفة من التبعثر والضياع والتخاذل، والتخلف عن الركب، والخبط الأعشى، والتطاول والادعاء الذي يكذبه الواقع .. ولا يخلص الأمة من الإثم الجماعي والتقليد الجماعي والتخلف والتخاذل الفكري إلا استدراك الكفايات المطلوبة، وتكامل الكفاءات، لبناء العقل الجماعي والفعل الجماعي المؤسسي، والتخلص من عقلية الرجل الملحمة العارف بكل شيء، القادر على كل شيء، الفاهم لكل شيء، تلك العقلية التي قادتنا إلى الفشل في كل شيء، وما نزال في محاولاتنا للإصلاح والمراجعة والتصويب في ضوء هذه العقلية العامة العامية لا نتقدم خطوة واحدة، وإنما نلقي القبض على الضحية ويفلت الفاعل الأصلي من العدالة، ليستمر في ممارسة فعلته الاجتماعية المنكرة .
وقد يكون من المستغرب حقا أن العقيدة التي جعلت العقل سبيل معرفة الوحي والتكليف بأحكامه، والأمة التي جعل فيها العقل محلا للوحي، ومصدرا للتشريع، وأداة لفهم السنن، تنتهي ببعض أهلها [ ص: 12 ] - بالممارسة والتدين المعوج - إلى تعطيل العقل وتجريمه وإلغائه .. وأخطر من ذلك، حيث يجعل بعض أبنائها العقل مقابلا للوحي، فيعطل بذلك الوحـي والعقـل معا، ويغيب التدين السليـم، إلا من بعض الممارسات الشعائرية المبتورة عن حكمتها ومقصدها .
وقد تكون المشكلة الأساس، في العطب والعطالة التي لحقت بالأدوات والنظم المعرفية التي تعتبر دليل التشغيل للآلة المنتجة (العقل) ، بحيث تحولت هذه النظم والأدوات من وسائل تشغيل وتفعيل إلى أدوات تعطيل وإلغاء، لأنها وضعت من الشروط والقيود والقواعد والضوابط ما أوصل الأمة إلى نشوء وتشكيل ذهنية الاستحالة، الأمر الذي أدى إلى مساهمة سلبية في محاصرة امتداد الشريعة وتقويم حياة الناس بها وإيقاف خلودها، وساهم بتشكيل عقدة الخوف من الاجتهاد والتعامل مع أحكامها، فهما وتنزيلا، فكان أن امتد (الآخر) ليملأ الفراغ المتولد عن هذا التوقف، وكان أن وجد الكثير من المثقفين في عالمنا الإسلامي أنفسهم وعقولهم في الرحابة ومجالات التفكير المتاحة من خلال فكر (الآخر) ، حيث لا يوجد في ساحته الفكرية أية محاذير من تخويف أو تأثيم أو تجريم، أو إرهاب فكري .
صحيح أن امتداد الفقه التشريعي بشكل أو بآخر ما يزال مستمرا على الرغم من إقصائه عن الكثير من المواقع الرسمية والسياسية، لأن [ ص: 13 ] مساحات كبيرة منه تخص الفرد وعلاقاته الاجتماعية من جانب، ولأن الآفاق الثقافية أو الحوار الحضاري العالمي يتطلب قدرا من النمو والامتداد من جانب آخر .
ونستطيع القول : إن عملية الإقصاء أو التحييد للتشريع الإسلامي أو للاجتهاد إنما تحققت على مستوى الدولة والسياسة وبعض النخب المثقفة فقط، ولم تتحقق على مستوى الأمة والثقافة، أي أن الدعوة العلمانية التي جاءت باسم إنهاء التعصب الديني والطائفية الفكرية والسياسية، انتهت إلى طائفية أشد وأعتى، أصابت الدولة ومن هم في إطارها ولم تصب الأمة، حيث أقنعت الدولة في كثير من بلدان العالم الإسلامي بأن الرصيد العلماني، على الرغم من إفلاسه الاجتماعي، يشكل ضمانة وحماية لمؤسساتها من امتداد (الإرهاب) وهجوم الأصولية الإسلامية.
وهذه الإشكالية الثقافية والسيـاسية، أو المعادلة الصعبة التي أورثت الصراع الرهيب بين الأمة والدولة، لابد من دراسة أسبابها وبشكل موضوعي، ووضع الحلول الغائبة، لإعادة معالجة إشكالية الدولة والأمة في عالمنا الإسلامي، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في وسائل التربية والتعليم والإعلام الإسلامي وطبيعة أدائه، وتقويم مسيرته، [ ص: 14 ] والوقوف بجرأة أمام بعض الأخطاء القاتلة التي تسببت في ضعف تأثيره وساهمت سلبيا بمحاولات عزله.
وقد يكون المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى إعادة النظر بقضية توقف الاجتهاد بشكل عام، والشروط القاسية التعجيزية المطلوبة لمن يتصدى له، التي أدت إلى ذهنية الاستحالة، والتي جاءت بالأصل ثمرة لحماية الاجتهاد من المتطفلين والقاصرين والعابثين والمسوغين لأنظمة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي.
إن هذه الشروط والضوابط التي لا تخرج في حقيقتها عن كونها اجتهادا لظرف معين، أدت إلى توقف الاجتهاد وإلغاء العقل، وسيادة التقليد، والعجز عن التوليد والامتداد، بحيث لم يقتصر التقليد على الداخل الإسلامي وإنما امتد إلى تقليد (الآخر) ، فوقع الاجتهاد في غربة الزمان بالنسبة لبعض الفقهاء، حيث اقتصر على ترديد الاجتهادات التاريخية السابقة، وإعادة إنتاجها من جديد، والعجز الواضح حتى عن الإتيان بمثال تطبيقي للقاعدة الأصولية غير المثال المنقول عن السابقين من كتاب إلى آخر.
كما أن إيقاف الاجتهاد أدى إلى غربة المكان بالنسبة لبعض المثقفين الذين يمثلون رجع الصدى لفكر (الآخر) ، وإعادة إنتاجه باللغة [ ص: 15 ] العربية، على الرغم من مناقضته للتاريخ الفقهي والفكري والثقافي ولقيم الأمة المسلمة.
وقد يكون الوجه الآخر للمشكلة يكمن في العجز عن إعادة النظر بشروط الاجتهاد في ضوء المعطيات العلمية والتقنيات الحديثة، التي وفرت الكثير من الأدوات التي كان مطلوبا تحصيلها من الفرد فأصبحت مهيأة له، وفرت عليه الكثير من التفكير واحتمال خطأ الذاكرة، كما وفرت له الوقت ليصرف جهده كله إلى النظر والتفكير والاستنتاج والاجتهاد .. إضافة إلى أن القواعد الموضوعية لعلم أصول الفقه، وهي في أصلها اجتهاد، تحولت إلى قواعد فلسفية مجردة، عصية عن التشغيل في توليد الأحكام .. كما أن عمر الفرد المحدود في عصر التخصص الدقيق والاتساع في القضايـا والمشكـلات الإنسانيـة، أصبـح لا يمكن أن يتسع لذلك كله، فكان لا بد من عملية بناء العقل الاجتهادي المقاصدي الجماعي، الذي تشكل له الاختصاصات المتعددة الحواس السليمة لمصادر المعرفة التي يبنى عليها الاجتهاد، وعلى الأخص أن الاجتهاد الفقهي والفكري لا بد أن يكون لكل فرد منه نصيب، مهما كانت درجة ثقافته وكسبه العلمي، لأن الإسلام رسالة عامة وشريعة أمية والمطلوب من كل إنسان أن يتعامل معها، فقها [ ص: 16 ] وتنزيلا، على حاله التي هو عليها، وبذلك تنفتح مجالات الحوار والمفاكرة، فيتخصب العقل، وتتمحص الحقائق، وتهزم الأخطاء والبدع، ويصح الصحيح، وتعود الفاعلية للأمة، ويتم الامتداد والتوليد، وينحسر التقليد والتلقين، ويسترد الإنسان إنسانيته وتكريمه وتميزه وحريته التي أرادها الله له.
ولذلك قد يكون من المفيد طرح قضية الاجتهاد باستمرار، واستدعائها إلى ساحة التفكير، ودراسة مراحلها التاريخية، وإعادة النظر في علم أصول الفقه أو أصول التفسير والاجتهاد، وعدم القفز من فوقه أو محاولة إلغائه وتجاوزه كما تسعى إلى ذلك بعض الاتجاهات الفكرية المعرفية الحديثة، التي تدعو إلى أسلمة المعارف، لأن ذلك ليس من العلـم ولا التراكم المعرفي ولا الموضوعية، وإنما قد تكون المشكلة في الانحسار ضمن قوالبه القديمة، على الرغم من أن التطورات والمتغيرات والمعطيات الجديدة تقتضي تطويره وإعادة النظر بشروطه وضوابطه، وتوسيع دائرة التفاعل معه والمشاركة فيه، واستدعاء الكثير من التخصصات إلى ساحته، ليتم الإنتاج الفكري والمعرفي الإسلامي المقاصدي المعاصر.
وبعـد:
فهذا الجزء الثاني من كتاب الاجتهاد المقاصدي، الذي يعتبر من [ ص: 17 ] كل الوجوه مكملا للجزء الأول [1] ، عرض فيه الباحث لجوانب مهمة من بحث مسالك العلة عند الأصوليين والفقهاء، التي تعتبر محور الاجتهاد بجميع آفاقه، والتي تقتضي فقه الواقع أو الاجتهاد في محل النص، وتوفر الشروط المطلوبة لتنزيل النص على محله، ذلك أن فقه النص دون فهم الواقع الذي يعتبر محل التنزيل، يمثل نصف الطريق أو نصف الحقيقة التي توقف عندها الكثير من الفقهاء في هذا العصر، والتي سـوف لا تحقق شيئا إذا لـم نفهـم الواقـع.
إن فقـه الواقـع لا يتحصـل إلا بتوفر مجموعة من الاختصاصات في شعب المعرفة، تحقق التكامل والعقل الجماعي، حتى إننا لنعتقد أن الفقه الصحيح للنص في الكتاب والسنة، يقتضي فهم الواقع محل النص في ضوء الاستطاعات المتوفرة .. وفي تقديرنا أن هذه هي المعادلة المطلوبة اليوم لقضية الاجتهاد، حتى يسترد العقل عافيته، والاجتهاد دوره، والوحي مرجعيته، ويقوم الواقع بقيم الدين، فهما وتنزيلا.
وقد تكون ظاهرة الإقدام على فتح باب التأليف في موضوعات الاجتهاد المتنوعة بعد هذا الركود الطويل، ظاهرة صحية تبشر بالخير، وتلمح إلى استشراف المستقبل.
والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 18 ]