الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      المبحث الثالث : المشكلات المالية في ضوء الاجتهاد المقاصدي

      زكاة المستغلات

      المستغلات هي الأموال التي تعود على أصحابها بفوائد وأرباح بواسطة تأجير عينها أو بيع ما يحصل من إنتاجها، ومثالها : العمارات والمصانع والفنادق وقاعات الأفراح والسيارات والطائرات والسفن وسائر وسائل النقل التي تنقل البضائع والأشخاص، وغير ذلك.

      وقد اختلفت أنظار الفقهاء حيال مسألة الزكاة في هذه الأصناف المالية، فمنهم من مال إلى عدم الزكاة فيها، بناء على أنها ليست من الأصناف التي تحددت الزكاة فيها، ومنهم من أوجب الزكاة فيها، بناء [ ص: 133 ] على عدة أمور، منها:

      - أنها من الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة .

      - أن علة وجوب الزكاة معقولة المعنى، وهي النماء والزيادة، وهذه الأموال توجد فيها هذه العلة، فيكون حكمها الوجوب لدوران العلة مع المعلول، وجودا وعدما .

      - أن حكمة تشريع الزكاة هي التزكية والتطهير لأرباب المال أنفسهم، ومساعدة المحتاجين، والإسهام في حماية دين الإسلام وتقوية الدولة المسلمة، وغير ذلك من الحكم والأسرار التي تجعل الزكاة في هذه الأصناف أولى وأنسب. وإذا كانت الزكاة واجبة على صاحب الزرع والثمر القليل، فكيف لا تكون واجبة على مالك العمائر والمصانع والسفن والشاحنات، التي يكون دخلها أضعافا مضاعفة؟!

      زكاة الرواتب والأجور ومختلف أنواع المال المستفاد

      المال المستفاد إذا حصلت شروط الزكاة فيه مثل النماء والنصاب وغيره، وجبت فيه الزكاة، وذلك مثل أجرة الطبيب والمحامي والمهندس والصانع والأستاذ والمقاول ورجل الأعمال والموظف والحرفي وغيرهم، ودليل ذلك : [ ص: 134 ]

      - دخولهم في عموم النص الموجب للزكاة .

      - إذا كان الشارع افترض الزكاة على الفلاح الذي يملك خمسة أفدنة، فإنه من الأنسب والأولى أن تجب الزكاة على صاحب حرفة كبيرة كالمحاماة والطب والهندسة، الذي تدر عليه خمسين فدانا، بل إن ما يكسـبه الطبيـب في يوم واحد والمحـامي في قضـية واحدة يعدل ما يكسبه الفلاح طوال سنة بحالها [1] ، وهذا الرأي هو الأقرب إلى روح التشريع ومقاصد الشرع، وأنسب لصاحب المال، من حيث تطهير نفسه وماله، ولصاحب الحاجة من حيث مواساته ومساعدته .

      دفع القيمة في الزكاة

      اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من منع إخراج القيمة استنادا بالأساس إلى اعتبار الزكاة عبادة وقربة أكثر منها معاملة غايتها المواساة والإحسان وسد الحاجة، ومنهم من أجاز إخراج القيمة بدلا عن العين، بناء على عدة أمور، منها ما يتصل بالمقاصد والتعليل، ويتمثل بالأساس في أن إخراج القيمة هو الأليق بالعصر وأهون على الناس، وأيسر في الحساب، ما لم يكن في ذلك ضرر بالفقراء أو أصحاب المال [2] [ ص: 135 ]

      ففي زكاة الفطر مثلا يكون إخراج قيمتها أقرب إلى روح التشريع ومصلحة الفقراء، من حيث التوسعة عليهم وإغنائهم عن الحاجة في يوم العيد، ولا سيما فيما يتعلق باقتناء بعض حاجات اللباس والطعام (مثل حلويات العيد ) ، وغير ذلك من الحاجات التي يكون الفقراء في أشد الشوق إليها، والتي لا يمكن أن يعدوها ويحضروها إلا في وقت متسع، وإذا أخذوها نقدا وقيمة.

      البيع بالتقسيط

      حكمه الجواز، لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولم يرد نص على تحريمه، وللبائع أن يزيد في الثمن لاعتبارات يراها ما لم تصل إلى الفحش [3] أما الذين اعتبروه شبيها بالربا من جهة أنه زيادة في المال في مقابل الزمن، فهو غير ذي وجاهة معتبرة، لقيام الفرق بين الزيادة بسبب الزمن في القرض، وبين الزيادة بسبب البيع والتجارة .

      بيع المزاد العلني

      وهو بيع جائز، كما في بيع السيارات والحيوانات ومختلف [ ص: 136 ] الأمتعة، التي تعرض للبيع، ويتزايد الناس في سعرها، إلى أن يرضى البائع عن سعر معين، فيبيعها لمن اقترح ذلك السعر.

      وهو نوع من أنواع التعامل المشروع الملبي لحاجيات السوق ومصالح الناس، مع ما ينبغي من استيفاء للشروط والضوابط الشرعية، حتى لا يخل بحقيقة العقد ومشروعية البيع ومصلحة أحد الطرفين. [4]

      ربط الديون والقروض والمعاملات بمستوى الأسعار

      حكمه المنع والتحريم، لأنه يؤدى إلى الغرر الفاحش بمقدار الثمن، ويقلب الأوضاع، فتقوم النقود بالسلع بدلا من أن تقوم السلع بالنقود، ولا يحقق العدالة، ولا يعالج مشكلة التضخم، ويعمق نفس علل الربا من الجهالة والنزاع والفحش الفادح بين المتعاملين، ويفضي إلى مزيد الظلم والإجحاف، لأنه يحمي الدائنين على حساب المدينين، الذين ليسوا سببا في ارتفاع التضخم، والدائنون هم الأثرياء في الغالب، والمدينون هم الفقراء في الغالب كذلك.

      ومن ثم فهو لون من ألوان التعامل المفضية إلى تعميق الأحقاد والضغائن، والتحامل بين المتعاملين بسبب التحايل والغرر والجهالة [ ص: 137 ] والضـرر، وقد جاء قرار مجمع الفـقه الإسلامي بجدة مانعا لذلك فيما يلي : (العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار) [5]

      التأمين التعاوني

      وهو عقد بين جماعة كالتجار والمدرسين والجيران على دفع مقادير مالية، قصد الاستفادة منها عند حدوث مصيبة أو ظرف معين، يحتاج فيه صاحبه إلى المساعدة والمواساة، والغرض من هذا التأمين هو تخفيف المصيبة ودفع آثارها، وليس الربح، وهو واضح الجواز والحلية لما فيه من مراعاة المبادئ والقيم الإسلامية النبيلة على نحو : التعاون على البر والتقوى، وتفريج الكرب، وتخفيف النوائب، وتعميق معاني التكاتف والتضامن والتقارب بين أفراد البلدة الواحدة والمجتمع الواحد.

      ويمكن أن يكون الغرض منه كذلك الربح الذي سيعود نفعه على المشتركين المصابين، وذلك باستثمار الأموال المدفوعة في الأعمال المشروعة كالمضاربة والمزارعة، مع ضرورة استحضار شروط ذلك من [ ص: 138 ] معرفة رأس المال والربح وكيفية توزيعه. [6] فالربح هنا ليس هو مجرد كسب المال وحيازته لشخص واحد، بل هو محقق لهدف التعاون، لأنه سيعود على الكل، فكأنه زيادة للمقادير المالية المدفوعة الموضوعة، لمواجهة النوائب والشدائد، كما أنه واقع بممارسة طرق مشروعة في استثماره وتنيمته.

      التأمين التجاري

      وهو عقد بين طرفين : مؤمن ومؤمن له، يقوم المؤمن بدفع مال للمؤمن له عند حلول خطر به، وقد عده الفقهاء عقد غرر من قبل المؤمن له، لأنه قد يأخذ العوض إن حصل الحادث وقد لا يأخذه إن لم يحصل .. ومن قبل المؤمـن، لأنه قد يأخذ المبـلـغ المتفـق عليه وقد لا يأخذه، وهو غير متعادل غالبا [7] وقد عده بعضهم بأنه عقد جهالة وقمار وربا وضمان بجعل ورهان محرم، [8] وهو منهي عنه لتلك الاعتبارات ولما يفضي إليه من التنازع والغبن والضرر بأحد المتعاملين أو بكليهما، أضف إلى ذلك فإن هناك الكثير من التأمينات التجارية المرتبطة بالشركات الأوربية والصهيونية المتعاملة بالربا، والتي تسخر [ ص: 139 ] ذلك لمزيد الإذلال والاستغلال والهيمنة. [9] وقد أصدر المجمع الفقهي بمكة المكرمة قرارا بالإجماع، [10] يقضي بتحريم التأمين التجاري بكل أنواعه، سواء على النفس أو البضائع أو غيره، وذلك لأنه مشتمل على الغرر الفاحش، ولأنه ضرب من ضروب المقامرة، ولأنه مشتمل على ربا الفضل والنسيئة، فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أكثر مما دفعه من نقود لها، فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نساء، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نساء فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع، وهو كذلك مشتمل على الرهان المحرم، وسبيل لأخذ أموال الغير بلا وجه شرعي. [11] [ ص: 140 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية