الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      الفصل الثاني معالم الاجتهاد المقاصدي المعاصر

      اعتبار المقاصد إطارا شاملا لمعالجة مشكلات العصر الحالي:

      تعد المقاصد كما هو معلوم إحدى المعطيات التي يستند إليها المجتهدون في معرفة أحكام القضايا والحوادث، فقد اشترط العلماء قديما وحديثا وجوب معرفة وفهم المقاصد ولزوم الاستنباط على وفقها [1] ، قال الشاطبي : (إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها) [2] وجاء عنه قوله كذلك: (فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لما يكن لينظر فيهما إلا عربي، كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما، إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما، فإنه إذا كان كذلك، لم يختلف عليه شيء من الشريعة) [3] وذكر كذلك أن: (الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من [ ص: 141 ] النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا) [4] وجـاء عن ابن تيمـية قـوله: (فإن الاستـدلال بكلام الشـارع يتوقف على أن يعرف ثبـوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده من اللفظ ) [5] وذكر العلامة محمد الطاهر بن عاشور : (فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها، أما في النحو الرابع فاحتياجه فيه ظاهر، وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا، وفي هذا النحو أثبت مالك رحمه الله حجية المصالح المرسلة، وفيه أيضا قال الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية وألحقوا بها الحاجية والتحسينية، وسموا الجميع بالمناسب، وهو مقرر في مسالك العلة من علم أصول الفقه) . [6] [ ص: 142 ]

      والنـحـو الرابع الذي ذكره ابن عاشـور : (هو إعـطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجـتهدين من أدلة الشـريعة ولا له نظير يقـاس عليه) [7] (والمقاصد إدراك لحكمة الشارع من التشريع، وهو الأليق بالاجتهاد والسبيل إلى الإصابة فيه) [8] فالمقاصد الشرعية من المعطيات الضرورية التي يعاد إليها في معرفة أحكام حوادث الزمان وأحواله، ولا سيما في عصرنا الحالي الذي تكاثرت قضاياه، وتضخمت مستجداته وتشابكت ظواهره وأوضاعه، وتداخلت مصالحه وحاجياته، وليس لذلك من سبيل سوى بجعل المقاصد إطارا جامعا، وميدانا عاما يمكن أن ندرج فيه طائفة مهمة من أوضاع عصرنا، لمعرفة ما هو شرعي ومتفق مع مراد الشارع ومقصوده، وما هو بعيد عن ذلك. [9] وجعل المقاصد إطارا جامعا لمشكلات العصر، لا يعني كما ذكرنا [ ص: 143 ] ذلك في أكثر من موطن استقلال تلك المقاصد عن الأدلة، وجعلها تضـاهي الوحي الكريم وتهيـمن عليه كما قد يفهم بـعضهم ذلك، أو يريد أن يصل إلى ذلك، وإنما يعني استخدام المقاصد باعتبار كونها معاني وقواعد مستخلصة من عموم الأدلة وسائر التصرفات والأمارات الشرعية المبثوثة في الكتاب والسنة والآثار الشرعية المتعددة، وباعتبار أن تلك المقاصد يلاحظ فيها شدة الالتصاق والتعلق بالوضع المدروس والمبحوث عن حكمه أكثر من غيرها من الأدلة والقرائن الشرعية، على الرغم من أن تلك الأدلة والقرائن هي التي شكلت أساس انبناء تلك المقاصد وقيامها وتحكيمها . ونذكر بأوضح شاهد هنا ما ذكره الغزالي بقوله : (... إن من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع) [10] فبيان حكم وضع أو حال معاصر يتم بإعمال المقاصد والأدلة معا: بإعمال المقاصد بصفة مباشرة وبصفتها قواعد مستنتجة من الأدلة، وبإعمال الأدلة بصفة غير مباشرة بصفتها الشرعية، وباعتبار كونها أساس تلك المقاصد. [ ص: 144 ]

      ولعل أوضح مثال على ذلك هو الاستنساخ الذي منعه العلماء في ضوء المقاصد الشرعية، وذلك لأنه مخل بمقصد حفظ النسل والنسب وغيره من المعتبرات المقاصدية الأخرى التي منع الاستنساخ في ضوئـها [11] ، غيـر أن القـول بمـنع الاستنـساخ في ضـوء المقـاصد لا يعني بداهة عدم الرجوع إلى الأدلة والقرائن الشرعية المتعلقة بذلك، وإنما يعني الرجوع إليها عن طريق استخدام مقصد حفظ النسل والنسب بالأساس، والذي توالت نصوص وأدلة شرعية كثيرة على إثباته وتقريره.

      واللجوء إلى المقاصد لمعالجة مشكلات العصر يكون

      - إما بوضع ثلة من المقاصد القطعية اليقينية، التي يعود إليها العلماء والمجتهدون في حسم الخلاف وتحديد حكم معين في قضية معينة لم ينص أو يجمع عليها [12] ، وهذا الذي دعا إليه بالخصوص العلامة ابن عاشور بقوله: (وكيف نصل إلى الاستدلال على تعيين [ ص: 145 ] مقصد ما من تلك المقاصد استدلالا يجعله بعد استنباطه محل وفاق بين المتفقهين، سواء في ذلك من استنبطه ومن بلغه، فيكون ذلك بابا لحصول الوفاق في مدارك المجتهدين أو التوفيق بين المختلفين من المقلدين) [13] .. وجاء عنه قوله كذلك عن غرض المقاصد: (لتكون نبراسا للمتفقهين في الدين ومرجعا بينهم عند اختلاف الأنظار، وتبدل الأعصار، وتوسلا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لأتباعهم على الإنصاف) . [14] ونجد من قبيل المقاصد القطعية اليقينية، الكليات الخمس الشهيرة كحفظ الدين والعقل والمال، ومقصد التيسير ورفع الضرر، ومقصد دفع الضرورة القصوى والحاجة القاهرة، ومقصد تقرير الامتثال الأكمل والتعبد الصحيح، وارتباط المقاصد بوسائلها، ومقصد العدل والمساواة والأمانة، وسائر قيم الأعمال وفضائل الأخلاق .

      - أو باعتماد المقـاصد في الترجـيح عندما يكون هناك تعارض ولا يمكن الجمع، إذ يقع الالتجاء إلى الاختيار والانتقاء في ضوء المرجحات الشرعية والمقاصدية . قال القرضاوي : (وهناك اجتهاد آخر أسميه [ ص: 146 ] الاجتهاد الانتقائي، وهو اختيار أرجح الأقوال من تراثنا الفقهي العظيم، مما نراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، وأليق بظروف العصر) [15] ومن أمثله ذلك : زكاة العمارات والمصانع والسفن والفنادق والرواتب العالية كالمحاماة والطب والهندسة، وغير ذلك من الأصناف المالية المستفادة بطرق غير الطرق التي نصت عليها الأدلة جملة، كالتجارة والزراعة والذهب والفضة، والتي أوجبت فيها الزكاة إذا بلغت شروطها المعروفة، فإن هذه الأصناف المستحدثة ولئن لم ينص على وجوب الزكاة فيها صراحة، فإنها تأخذ حكم الوجوب عملا بالمقاصد الشرعية في الزكاة، والمتمثلة في تطهير المال وتزكية المزكي ومواساة الفقير، وتقليل الفوارق بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق العدل بين أفراد المجتمع وغير ذلك، فإن هذه المقاصد نجدها ملحوظة في الزكاة على هذه الأصناف، بل قد تكون أكثر ملاحظة وحضورا بالنسبة إلى الأصناف المقررة كالغنم والحبوب والثمر، إذ لا يكون من العدل الذي أقره الإسلام كمقصد معتبر قطعي أن يؤمر صاحب القطيع من الأغنام بالزكـاة ويتـرك صـاحب الدخـل القـوي الذي يكـسب في اليوم الواحد [ ص: 147 ] ما يكسبه صاحب القطيع في السنة كلها .

      والمهم من هذا المثال هو اللجوء إلى المقاصد لترجيح حكم الوجوب على عدم الوجوب، الذي قال به بعض الفقهاء، لالتزامهم بعموم النصوص والأدلة وظواهرها.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية