المبحث الثاني : الضوابط العامة والشروط الإجمالية للاجتهاد المقاصدي
نعني بذلك المبادئ والقواعد الكبرى التي تشكل المرجع العام والإطار الشامل لاعتبار المقاصد ومراعاتها في عملية الاجتهاد، إذ إنه كما ينبغي تقييد المقاصد بالأدلة الخاصة والشروط القريبة، فيجب كذلك تقييدها بتلك الضوابط العامة والشروط الإجمالية، وإدراجها ضمن كبرى اليقينيات الدينية والمقررات الشرعية بغرض حسن التطبيق وتمام الجمع بين الكلي وجزئياته [1] .
وتلك المبادئ هي:.
* شرعية المقاصد وإسلاميتها وربانيتها، ولزوم مسايرتها لأبعاد الفكر العقدي الإسلامي، ووجوب تطابقها مع مبدأ العبودية والحاكمية [ ص: 25 ] الإلهية [2] ، والتكليف الديني، وتحصيل المصالح الشرعية في الدارين .
وبدهي أن نقول : إن جميع الشرائع السماوية جاءت لتقر مبدأ عبودية الله تعالى في كل الأحوال والأزمنة، وفي مختلف الظروف والأوضاع، ولجميع الأمم والملل والأفراد،
قال تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) (النحل:63) .
والشريعة الإسلامية باعتبار كونها تتصف بصفات الخاتمية والدوام والعموم والشمول والوسطية والتوازن والاعتدال والصلاحية، فهي واردة لتقرير نفس المبدأ وذات المعنى المتصل، بربط وتقييد كل أحوال الوجود، وإناطة جميع تصاريف الحياة بتحقيق عبادة الله عز وجل وإفراده بالألوهية والحاكمية، وتثبيت حقيقة الامتثال الأكمل والخضوع الأتم بأحكامه وهديه ووحيه العزيز،
قال تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات: 56)
فالعبودية بهذا المعنى الموسع تسخير لكل ما في وسع الإنسان ومقدوره بغية طاعة الخالق وجلب مرضاته، فيكون فعل الإنسان والجماعة والأمة - قائما وفق مبدأ العبودية الإلهية ومراد المعبود الحكيم ومقاصد الوحي الكريم.
والمقصود بهذا الضابط العام أن تكون المقاصد منبثقة من هذا [ ص: 26 ] المفهوم الشـامل للعبادة ومتصفة بصفات الشرعـية والربانية والعقدية، وأن لا يطرأ عليها بمرور الأزمـنة وتعاقب الأمم وتنـامي الحضـارات ما يسلب منها سماتها وجوهرها، ويقدح في حقيقتها وكنهها [3] وأفدح خلل قد يطرأ على هذا الضابط هو تضييق معنى العبودية الإلهية ليقتصر على الناحية الشعائرية التعبدية الروحية من صلاة وحج وذكر وصوم، ويهمل نواحي المعاملات والأنكحة والجنايات وغير ذلك مما يجب إدراجه ضمن مبدأ العبودية الإلهية، ثم إن هذا التضييق الشنيع يشكل لدى أربابه ذريعة هامة لتحكيم الهوى والتشهي في غير جوانب التعبد الشعائري بلا ضابط ودون قيد، وتحت غطاء مسايرة سنة التطور، وما تقتضيه المصلحة الفردية والجماعية، وما تمليه العقول والأعراف والعادات.
ومن الواضح أن هذا الادعاء الموهوم بين البطلان والفساد، لتعارضه مع ما ذكرنا من أن الشريعة شاملة لأحوال الإنسان كلها، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وأن الله قد أحاط علمه بكل شيء، فهو القادر على بيان ما فيه صلاح الإنسانية في شعائرها ومعاملاتها وسائر أحوالها، أضف إلى ذلك أن من أسس العقيدة الإسلامية الربط بين الدنيا والآخرة . قال الشاطبي : المصالح المجتلبة شرعا، [ ص: 27 ] والمفاسد المستدفعة شرعا، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الآخرة، لا من حيث أهواء النفوس في جلب المصالح العادية أو درء مفاسدها العادية .
إن ميزان المقاصد مضبوط بنظرة الإسلام للوجود الكوني، القائمة على الجمع بين البعدين المادي والغيبي، والربط بين حياتي الدنيا والآخرة، والتنسيق بين مطالب الجسد والروح، بين مراد الشارع ومصالح الخلق، بين ظواهر الأفعال وبواطن النفوس، وغير ذلك مما يجسد حقيقة جوهر الإسلام وسائر تعاليمه وأدلته، فالمقاصد الشرعية محكومة بهذا الضابط المتين، وأن أي خلل أو شذوذ عنه يعد إخلالا عظيما وانفلاتا خطيرا عن حقيقة المقاصد الشرعية، ومعارضة لمراد الشارع، وتحكيم للرأي الموهوم، ووقوع في المفاسد العظمى والمهالك الماحقة.
* شمولية المقاصد وواقعيتها وأخلاقيتها، إذ ترتكز على الطابع الشمولي كما ذكرنا ذلك قبل قليل، فهي ليست مقتصرة على ناحية دون ناحية، وهي مبثوثة في سائر الأحكام والقرائن الشرعية بتفاوت من حيث القلة والكثرة، والظهور والخفاء، والتصريح والتلميح، والقطع والظن، والتنصيص والإلحاق، والتقعيد والتفريع.
وشمولية المقاصد مستفادة من شمولية الشريعة لمختلف مجالات [ ص: 28 ] الحياة، ولكون تلك الشريعة معقولة المعنى ومعللة على الجملة وعلى التفصيل، ومن هنا فإن جميع المجالات الشرعية لها مقاصدها الشرعية، تتفاوت كما ذكرنا تفاوتا ملحوظا، وتختلف مقدارا وكما، وليس سائغا أن يضيف العقل ما يدعيه من مصالح متوهمة تحت ادعاء الفراغ المقاصدي لبعض النصوص.
كما ترتكز المقاصد على الطابع الواقعي الذي يجسد حيويتها ومسايرتها وانسحابها على مختلف البيئات والظروف، ودليل هذا شواهد التاريخ والواقع والأدلة والنصوص.
فصمود الشريعة بمقاصدها خلال أربعة عشر قرنا، وقدرتها على التطبيع في العصر الحالي في مواطن شتى من المعمورة، وصلاحية نصوصها ومبادئها التي جمعت بين الثبات والتطور، بين الأصالة والاجتهاد، بين أدلة نقلية وأصلية وأدلة استصلاحية وتبعية، واتصاف المقاصد بالوضوح والظهور والانضباط يثبتها أمام المتغيرات والتطورات، ويزيل عنها سلبيات التوظيف والتعسف بسبب الاضطراب العقلي وتشوشه، وتعارض الميول والأهواء، وتضارب المنافع والمكاسب، إن كل ذلك يدل على أن المقاصد لم تصلح لزمن ماض فقط، ولم تناسب أمة دون أمة، فهي مسايرة للواقع الإنساني في سيرورته التاريخية، وهي تستمد خاصية الواقعية من نفس واقعية [ ص: 29 ] الشريعة وملاءمتها للتطبيق في كل زمان ومكان.
كما ترتكز على الطابع الخلقي القيمي الإنساني، فهي المقاصد التي تجسد أخلاقية الشريعة وقيامها على كبريات القيم وعظيم الفضائل، وسعيها إلى تمكين مكارم الأخلاق في النفوس ومبادئ العدل والحرية والمساواة والتسامح والأمانة والمحبة والتعاون، واستهجانها لمظاهر الظلم والخيانة والغدر والاستغلال وغير ذلك مما أشار إليه الحديث النبوي الرائع من بيان أرقى مقاصد الرسالة وأجلى مطالبها بعد عبادة الله والامتثال إليه، حيث جاء في الهدي النبوي بيانا للغرض العام من البعثة بأنه تتميم لمكارم الأخلاق.
فالطابع الخلقي للمقاصد يدرأ الناحية القانونية الشكلية الظاهرية، التي تقف عند الظواهر والمباني، وتضيع الحقوق والمصالح، وتشرع لعقلية قضائية وسياسية، تقوم على تزيين الظاهر، وإضفاء الحجة والحقية على الظواهر والقرائن، وتعمد التحايل والتذرع والإيهام بغير ما هو كامن في النفوس، ومركوز في الباطن .. إنه ليس غريبا عن المقاصد الشرعية أن تنبني على هذا المعنى الخلقي، فهي تجعل من أعظم موضوعاتها ومسائلها إبطال الحيل والذرائع وتخليص النيات والقصود من شوائب التغرير والغش والإيقاع في الظلم والغفلة والإضرار، وتطهير البواطن من الشرك والحسد والبغضاء، واستحضار [ ص: 30 ] الجانب الدياني في العمل القضائي، فيشترط العلماء تطابق القصد مع ظاهر العمل حتى يكون ذلك العمل صحيحا ديانة وقضاء، أي محققا مرضاة الله تعالى ومصالح الناس.
لذلك منعت كثير من المعاملات الفردية والجماعية بناء على قيامها على التحايل والمغالطات، وذلك على نحو : نكاح التحليل، وزواج المتعة، وبيع العينة، وتطليق الزوجة لحرمانها من الميراث، وقتل المورث لاستعجال الإرث، وهبة المال قبل الحول فرارا من الزكاة وغير ذلك كثير.
فهذا ابن رشد الحفيد منذ حوالي تسعة قرون يؤكد أن تقدير المصالح لا يثبته إلا العلماء بحكمة الشرائع، الفضلاء الذين لا يهتمون بظواهر الشريعة المفضية إلى الظلم والجور [4] وليس إيراد هذه الحقيقة وأمثلتها موقوفا على أعلام الإسلام فقط، بل إن غيرهم قد أجمعوا على ما تميزت به من سمو أخلاقي ومقاصد اجتماعية وإنسانية عامة [5] يقول المستشرق جوزيف شاخت : (ثم إن أحكام الشريعة كلها مشبعة بالاعتبارات الدينية والأخلاقية، وذلك مثل تحريم الربا، أو الثراء غير المشروع بوجه عام، وتحريم إصدار الأحكام على أساس الشبهة، والحرص على تساوي الطرفين المتعاقدين، ومراعاة الوسط في الأمور) [6] [ ص: 31 ]
* عقلانية المقاصد، وجريانها على وفق العقول الراجحة والأفهام السليمة والفطر العادية، فإن المقاصد الشرعية المقررة تتلقاها عقول العامة والخاصة بالقبول والتأييد، لما فيها من مسايرة الفطرة، ومطابقة الأعراف، ومناسبة المعقول، فمقاصد الكليات الخمس، ومعاقبة الجاني، واستنكار الظلم والخيانة والغدر، ومحبة الخير والأمانة والصدق، وتفريج الكرب والشدائد عن المنكوبين والمدينين، والإعانة على المعروف والفضائل، ومنع الغرر والضرر في المعاملات، ومنع الوطء في الحيض والنفاس، وتأبيد الزواج ومنع توقيته وتحيينه، والحث على طهارة المكان والبدن والثياب، وطهارة اللسان والقلب والنفس، وغير ذلك من المقاصد على تنوعها واختلاف مراتبها، تتسم بالمعقولية والمنطقية، ولا يجحدها إلا أصحاب العقول المختلة والأمزجة المهتزة.
وحتى المجالات التي يظن أنها غير معقولة المعنى على نحو العبادات والمقدرات، فهي معللة على التفصيل أحيانا، مع تفاوت في مراتب التعليل ودرجات الحكمة، وهي كذلك معللة على الجملة باندراجها ضمن عموم المنظومة وكبريات القواعد، وبإفضائها إلى بعض المقاصد المعقولة. [ ص: 32 ]
وما يبدو من تعارض ظاهري بين المنقول والمعقول، فهو راجع إلى أن المنقول ليس في وسع العقل فهمه واستيعابه، أو أنه محمول على ظاهره، ولكن التأويل الصحيح يزيله، أو أنه ادعي أنه منقول (هذا في أخبار الآحاد فقط) ، وهو غير ذلك، أو أن العقل قد أخطأ فيما توصل إليه من نتائج [7] .