المبحث الأول: أساسيات النص
هي جملة المعطيات والمعلومات اللغوية والأصولية التي يستحضرها المجتهد في التعامل مع النص الشرعي، فهما وتطبيقا.
الأساسيات اللغوية:
وهي جملة المعلومات اللغوية التي يجب استحضارها في فهم النص الشرعي وإدراك مقصده وعلته وحكمته، وذلك مثل عموم [ ص: 58 ] اللفظ وخصوصه وظاهره وباطنه الذي لا ينصرف إليه إلا بالدليل (إذ لا يعدل عن الظاهر إلا بدليل) [1] فالعمل بمقتضى دلالة الظاهر واجب اتفاقا ما لم تقم قرينة من الشرع أو العقل أو اللغة أو العرف العام تخرجه عن ظاهره فيئول حينئذ حسبما تقتضيه تلك القرينة . ولما كان مجرد تخيل المصلحة المعارضة لدلالة الظاهر ليست قرينة من هذه القرائن الأربع، كان الأخذ بها مناقضة للظاهر لا تأويلا وهو غير جائز اتفاقا [2] وكذلك عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومفرده ومشتركه، ومنطوقه ومفهومه (الذي يفهم من نفس الخطاب من قصد المتكلم لعرف اللغة) ، وأمره ودلالته على الوجوب إلا إذا دل الدليل على غير ذلك.
وكذلك النهي المفيد للتحريم إلا إذا دل الدليل على غير ذلك، وخطاب الوضع (الأسباب والشروط والموانع والرخص والعزائم والوسائل ) وتأثيره في خطاب التكليف . وكذلك ناسخه ومنسوخه وأسباب نزوله ووروده وتدرجه في بيان الأحكام، والتفاته في ذلك إلى الرفق والتخفيف والتيسير، وتعويده للمكلف على الامتثال الأكمل والعمل على تثبيت الأحكام وتجذيرها بصفة جيدة، إذ لو [ ص: 59 ] نزلت الأحكام دفعة واحدة أو بمعزل عن ظروفها وملابساتها، لوجد المكلف مشقة عظمى في فهم الأحكام ومناطاتها وعللها، ولضيع مقصوداتها وآثارها.
فكل تلك المعلومات اللغوية والأصولية وغيرها، المبثوثة في كتب الأصول، تشكل الأساس الضروري الذي لا بد منه في الاجتهاد والاستنباط، وهي في علاقتها بمعانيها ومقاصدها ودلالاتها كعلاقة الشرط بمشروطه، والسقف بجدرانه، فهي أمارات وعلامات دالة على مراد الشارع الحكيم ومقاصده، وأسباب لتحققها وتطبيقها في الواقع، وباعتبار أنها الشطر الثاني الذي يشكل مع المقاصد كيان النص ووجوده، (فما أطلقه الله من الأسماء، وعلق به الأحكام، من الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسـولـه) . [3] فمن أراد تفهمه فمن جهـة لسـان العـرب يفهـم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة... فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام [ ص: 60 ] يراد به العام في وجه والخاص في وجه، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو أوسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها) [4] ذلك أن مقاصد الكلام مداره على معرفة مقتضيات الأحوال، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه باختلاف الأحوال، والجهل بالأسباب موقع في الانحراف في الظاهر، ومفض إلى النزاع والاعتساف [5] (وإنما حق الفقيه أن ينظر إلى الأسماء الموضوعة للمسمى أصالة أيام التشريع، وإلى الأشكال المنظور إليها عند التشريع من حيث إنهما طريق لتعرف الحالة الملحوظة وقت التشريع لتهدينا إلى الوصف المرعي للشارع) [6] و (لا تكون التسمية مناط الأحكام، ولكنها تدل على مسمى ذي أوصاف، تلك الأوصاف هي مناط الأحكام، فالمنظور إليه هو الأوصاف خاصة) [7] [ ص: 61 ]
ففهم الأحكام ينبغي أن يكون في إطار عادة العرب في التخاطب أيام نزول التشريع، وليس في إطار ما شهدته اللغة بعد ذلك من تطور وتوسع وتنام [8] سواء في مـدلول ألفاظها، أو في مدلول نظمها، وهذا لا يغفل جوانـب الاستفادة من ذلك التطور واستثماره في الفهـم، لكن في حدود دائرة أدب اللغة العربية على عهد نزول الوحي، دون الانـزلاق في تأويلات إسقاطية تحدث في الدين ما ليـس منه، بتحمـيل اللغة ما لم تحتمله من المراد الإلهي [9] .
لذلك كان من اللازم المحافظة على اللغة وأن لا يؤدي تطورها واتساعها ومرونتها إلى نوع من الانحراف والزيغ المؤدي إلى زيغ الأحكام وتحريف المقاصد الشرعية، وهذا ما جعل اللغة محل عناية فائقة واهتمام تاريخي متواصل من قبل علماء الشريعة في مختلف الفنون والتخصصات [10] بغية المحافظة عليها باعتبارها مقوما ثقافيا [ ص: 62 ] وحضاريا لأمة الإسلام، وباعتبارها لغة التنزيل [11] الذي لا تفهم أحكامه ومعانيه ومقاصده إلا بفهم صيغها وأساليبها المعهودة عند العرب في عصر التشريع.
إن فهم الشرع بغير معهود العرب أيام التشريع ولو كان في إطار اللغة العربية بعد ذلك العصر وما لحقها من تطور وتنام، إن ذلك الفهم سيؤدي حتما إلى خطورة بالغة تتفاوت قربا وبعدا بحسب مدى ملازمة الدلالات الصحيحة للعربية لفظا وصيغة، وأسلوبا وأدبا، وتتراوح بين وجود اختلالات واهتزازات في فهم النصوص وتجلية مقاصدها، وبين تعطيل الشريعة جملة وتفصيلا والوقوع في دوائر الهوى والضلال المبين.
إن تلك الخطورة تتمثل إجمالا في وجود ما يعرف بغلاة الباطنية والظاهرية، الذين انحرفوا عن المنهج السليم في فهم اللغة، والتزموا تأويلات شاذة وتفسيرات غريبة تراوحت بين الإفراط والتفـريط في دلالات اللغة على معانيها ومقاصدها وعللها [12] كما تمثلت تلك الخطورة في ظهور بعض العينات والأمثلة التي شذ بها عن المنهج الشرعي الصحيح. [ ص: 63 ]
ومثال ذلك : تفسير لفظ اليقين الوارد في قوله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) ( الحجر:99) ،
بالتيقن والقطع، وليس بالموت والوفاة، حيث قرر أصحاب هذا التفسير المختلف أن المكلف مطالب بالتعبد والامتثال إلى حين بلوغه درجة اليقين المقطوع به، فإذا بلغ ذلك سقط عنه التكليف والامتثال والتدين، وفعل ما شاء من الأحكام والتعاليم، ومعلوم أن لفظ اليقين في معهود العرب أيام نزول التشريع معناه الموت،
قال تعالى : ( وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين ) ( المدثر:46-47) ،
أي أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأنهم تركوا ما أمروا به حتى أدركهم الموت وهم على ذلك الحال.
والخلاصة أنه لا يجوز الخروج عن الحقيقة اللغوية للنص أيام التشريع سواء من الحقيقة إلى المجاز، أو من العام إلى الخاص، أو من الانفراد إلى الاشتـراك، أو غير ذلك إلا بقرينـة معتبرة نصا أو عقلا أو لغة أو عرفا، ومما مقرر في منهج التأويل وصحته. [13] [ ص: 64 ]