الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      الاجتهاد المقاصدي (حجيته .. ضوابطه .. مجالاته) [الجزء الثاني]

      الدكتور / نور الدين بن مختار الخادمي

      المبحث الأول: المشكلات التعبدية في ضوء الاجتهاد المقاصدي

      مكبرات الصوت في العبادة

      اتخذت في العصر الحالي مكبرات الصوت ومضخماته في الآذان والصلوات والجمعات والعيدين وخطبة عرفات وتنظيم الحجاج وترحيلهم، والمقصد من ذلك كله هو إسماع الجمهور [ ص: 115 ] وإفادتهم بمحتوى ما يذاع من معان وتوجيهات إسلامية، وكذلك تنظيم العابدين المصلين وحملهم على أداء العبادة على أحسن وجه، من حيث الاستواء، والائتمام، وعدم سبق الإمام، وتجسيد مظاهر الوحدة والاعتصام، وغير ذلك من مقاصد العبادة، التي يكون إسماع القائمين بها شرطا ضروريا لها، هذا فضلا عن أن اتخاذ تلك المضخمات ليس له ما يعارضه من الناحية الشرعية، فهو لا يخل بجوهر العبادة ولا يعطل ما وضعه الشارع لصحتها وكمالها، ولم يأت على خلاف الأصول والقواعد العامة، بل إن له ما يعضده ويقويه، وهو المتمثل فيما يعرف بالمسمعين الذين يتولون إسماع المتأخرين والمتباعدين عن الخطيب والإمام والمدرس في المناسبات الكبرى، كمناسبة خطبة عرفة وصلاة العيد وغير ذلك، ثم إن القاعدة الشرعية تقول : بأن ما لا يتم واجب الاستفادة مما يقوله المتكلم إلا به فهو واجب .

      الصلاة في الطائرة والمكوك والصاروخ

      يرى بعض الفقهاء أنه إذا حان وقت الصلاة والطائرة مستمرة في التحليق، وخشي المسلم من فوات وقت الصلاة، فإنه يجوز له أو يجب عليه أداؤها بقدر الاستطاعة، أما إذا علم أنه يقدر على أدائها في وقتها بعد نزول الطائرة، أو جمعها مع غيرها كالظهر مع العصر أو المغرب مع [ ص: 116 ] العشاء، فإنه في هذه الحالة لا يجوز له أن يصليها في الطائرة [1] ، والمقصد من ذلك هو المحافظة على أداء الصلاة في وقتها ونفي الضرورة والتكليف بما لا يطاق، والتيسير على المصلي بأمره بأدائها بحسب مستطاعه ومقدوره .

      الصلاة على الكراسي

      اقترح أحدهم أداء الصلوات الجماعية على الكراسي كما يفعل النصارى في الكنائس، لضمان الخشوع والتأمل وتكميل مظاهر الوحدة والسكينة، وقد اعترض على هذا الاقتراح الهزيل المضحك بأنه سذاجة وسخافة لمعارضته لأصل التعبد والامتثال، ذلك أن القيام في الصلاة والاستواء في الصفوف وأعمال الركوع والسجود والجلوس والقيام وغيره، هي من الأمور المطلوبة بالكيفية التي حددها الشارع، وهي لا تقبل الاجتهاد بالتغيير أو التنقيح أو التعديل، لأنها من القواطع اليقينية الدائمة إلى يوم الدين، وهي مما تحقق إرادة الامتثال [ ص: 117 ] الأكمل والخضوع الأتم المعبود، ولا يعبد الشارع إلا بما شرع .

      تغيير صلاة الجمعة إلى الأحد

      اقترح أحدهم كذلك تغيير صلاة الجمعة للمقيمين في أمريكا إلى يوم الأحد، لإحضار أكبر عدد ممكن من المصلين ولتعميم الفائدة والنفع، وقد اعترض على هذا الاقتراح السخيف المضحك بأنه وقوع في التشريع بالهوى والتشهي، وتعطيل لثوابت العبادة والامتثال، وأنه تغيير لحدود الله تعالى، وتبديل لما وضعه من أمارات وشروط وقرائن مضبوطة لا تقبل الزيادة ولا النقصان، مهما تطورت الحياة وازدهرت الحضارات، فالجمعة عبادة محددة بزمن معلوم وهو زوال يوم الجمعة وليس يوم الأحد .

      اعتماد الرؤية والاستئناس بالحساب في ثبوت الشهر

      ثبوت الشهر يتم بالرؤية الشرعية ويستأنس فيه بالحساب لورود الأدلة على ذلك [2] ، أما الدعوة إلى ترك الرؤية والاكتفاء بالحساب فهي مردودة وضعيفة لمعارضتها لأدلة موضوعة لتقرير أمر تعبدي وشعائري، تثبت بموجبه فريضة الصيام المحكمة ومناسك الحج القاطعة، ولأنه مفوت لحكم وأسرار كثيرة تترتب على ممارسة الرؤية، لعل من أهمها [ ص: 118 ] تهيئة المسلمين، روحيا ووجدانيا لاستقبال الصيام والحج، وتعميم الفرحة والسعادة بالعيدين، وإشاعة الأجواء المعنوية والمظاهر الحسية العامة المؤدية إلى تحبيب الناس في الشعائر وتقريبهم منها، وإعمال النظر في الأفق المتعالي والتأمل في الكواكب السيارة وتطوير معارف الفضاء، وغير ذلك من مدلولات الحث على الرؤية، صوما وإفطارا، حجا واعتمارا، تأملا واختبارا .

      الإحرام من جدة

      الإحرام له مواقيته الزمانيـة والمكانـية، وهو من التعبدي الذي لا يقبل الاجتهاد، والدعوة إلى تغيير مكان الإحرام وتعويضه بجدة عموما قول مردود، وما قيل في إمكانيته في بعض الأحوال فهو من قبيل الإفتاء الخاص المحـدد بشروطه وحدوده، وليس من قبيل التشريع المؤبد المغاير لأحكام الشرع، فالمواقيت محددة ومضبوطة، وجدة ليست منها، والإمكانات العصرية متوفرة لأداء الإحرام في الطائرة أو السفينة من الميقات المكاني الشرعي المحدد بالنصوص الشرعية الثابتة والصحيحة .

      وما قيل في إن محاذاة الميقات من الطائرة غير ممكن، أو إن ظروف الطائرة الداخلية غير مناسبة على نحو ما يتهددها من مخاطر تسرب [ ص: 119 ] المياه في أسلاكها وأجهزتها، وعلى نحو شدة برودة الجو ويحتاج إلى التدثر بالثياب، وفي الغالب لا يوجد في ثياب الإحرام ما يصلح للتدثر [3] فكل ما قيل لا يصمد أمام مبدئية ومشروعية الإحرام من الميقات المكاني المحدد، فتحديد الميقات معناه عدم تجاوزه إلا في حالة إحرام وقصد وتجرد، واستعداد معنوي وحسي كامل، تعظيما لشعائر الله، ومخالفة للمعهود من العيش، واستحضارا لحال الإنسان عند موته وبعثه، وإرادة الامتثال وطلب العفو والرضا والمغفرة من الرحمن الرحيم، وغير ذلك مما يحصل بفعل الإحرام بشروطه وآدابه والتي منها أداؤه في ميقاته برا أو جوا أو بحرا .

      أما ظروف الطائرة فهي في العصر الحالي أفضل من ظروف البر بكثير، فمناخها مكيف وأجهزتها متطورة، ومواسير مياهها في حل من أسلاكهـا وأجهزتهـا، وصانـع الطائـرة ما صنـع دوراتهـا المائيـة إلا ليستعملها الركاب كلهم أو بعضهم، والحجاج يمكنهم الاغتسال والتجرد من منازلهم، وليس لهم في الطائرة سوى فعل النية والتلبية وغيرها مما لا يوقع في حرج الازدحام والاختلاط في الطائرة، بل إن فعل أعمال الإحرام في الطائرة ليس فيه ما يخل بأمن الطائرة أو راحة الركاب [ ص: 120 ] أو سماحة الإسلام، أو غير ذلك مما يبرر به الكثير قولهم بفعل الإحرام من جدة .

      طوابق الطواف والسعي والرجم

      اتخذ ذلك لتيسير المناسك ورفع الضرر المترتب على كثرة الوافدين وشدة الازدحام، ودرء المشاق غير المعتادة والتي تصل إلى حد الموت المحقق والهلاك المبين، وفي أقل الحالات إلى تفويت الحج، وأدائه بكيفية مختلة ومضطربة ومنقوصة بسبب ذلك الازدحام، وقد بني هذا الأمر على قواعد التيسير والتخفيف ومبادئ نفي الضرر وإزالته، وعلى التوجيه النبوي الكريم المتعلق بفعل الميسور، وتجنب الحرج الواقع أيام منى .

      الرجم ليلا

      أفضل الرجم بعد الزوال كما هو معلوم في السنة العطرة، غير أن الفقهاء والمجتهدين توسعوا في وقت الرجم [4] مراعاة للتيسير والتخفيف عن الحجاج ورفع الحرج والضيق ونفي الهلاك المحقق أو [ ص: 121 ] المحتمل، وبناء على بعض الآثار الشرعية الداعية إلى واجب رفع المشقة عن أصحاب الأعذار الشرعية الذين لا يمكنهم فعل الرجم في الوقت الأفضل، مثل الرعاة والسقاة والنساء الثقالى والقائمين على الرعاية الصحية والمرورية والأمنية لضيوف بيت الله الحرام.

      التالي السابق


      الخدمات العلمية