مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على السراج المنير، سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد..
فإن ما تعانيه البشرية من أزمات على مستوى الفرد والمجتمع، ومن ثم على مستوى الحضارة في مفهومها الواسع، تضر بها في الصميم وتجعلها عرضة للقلق الساحق، ليدعوها بإلحاح واستعجال إلى إعادة النظر الشاملة في أنساق القيم التي توجه سلوكها وتغذي نظرتها إلى الكون والحياة والإنسان. وقد زاد الإشكالية تعقيدا أن بعض الأصوات المنادية بإعادة النظر هذه ظل أصحابها يدورون من حيث لم يحتسبوا في فلك التصورات التي أدت إلى الأزمة، فجاءت نظراتهم كليلة بعيدةعن الفهم الصحيح لطبيعة المشكل.
وإذا كانت السيرورة التي قادت الغرب إلى الدخول في هذا المنحدر الخطير مفهومة لدى المتتبعين لأطوار الحضارة الغربية المعاصرة، فإن المواقف الشاذة التي اتخذها بعض أرباب الفكر ممن وقعوا تحت طائلة التغريب تدعو إلى الاستغراب والعجب، فهم بطبيعة المشارب التي نهلوا منها والمفاهيم التي لقنوها على أيدي أساتذتهم الغربيين، عبروا عن نفس النظرة القاصرة المبتورة إلى التربية والحضارة، وقد كانوا في منجى عنها لو أنهم تحلوا بالأمانة للواقع [ ص: 31 ] الحضاري للأمة التي ينتمون إليها، فجاءت جنايتهم على النشء جناية كبيرة لا تغتفر.
وإذا كان هؤلاء قد سدروا في غيهم وظلوا في عزلة عن مطامح أمتهم وأمانيها، فإن عددا لا يستهان به منهم قد عادوا من جديد بعد أن اصطدموا بجدار الطريق المسدود، يفتشون في التراث عن مخرج عن الحيرة، وخلاص من رحلة العذاب.
والسؤال الذي أسعى إلى الإجابة عنه هو: ما هي القيم التي تحكم فكر هؤلاء المغتربين وتشكل مقياسهم في الحياة؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك ؟ ثم ما هي طبيعة القيم التي بدأوا يحاولون الاقتراب منها من جديد؟ بعبارة أخرى، ما هي طبيعة القيم التربوية في المجتمع المعاصر؟ وما طبيعة القيم التربوية في الإسلام؟ وما سر جاذبية هذه القيم؟
منهج تناول البحث
أما المنهج الذي سأستخدمه في تناول الموضوع والتعامل مع إشكاليته: فهو المنهج الوصفي التحليلي الناقد، الذي يعتمد التحليل والتفسير المنطقي القائم على الاستقراء والاستنتاج. وهكذا يقتضي مني الموضوع أن أقوم بوصف للقيم التربوية في المجتمع المعاصر، وتحليل لأسسها وأصولها الفلسفية التي منها تنطلق وعليها تعتمد، [ ص: 32 ] واستشفاف آفاقها، والمدى الذي في وسعها أن تبلغه في تحريك الإنسان، والجوانب التي تستطيع تحريكها.
ثم أقوم كذلك بتناول القيم التربوية في الإسلام، سالكا نفس الخطوات التي سلكتها مع القيم التربوية في المجتمع المعاصر، أي رسم الأسس الفلسفية والنفسية التي ترسو عليها تلك القيم، مع بيان وتحليل الطريقة التي تحدث بها وظائفها وتؤتي ثمارها، وطبيعة التفاعلات التي تجري بين عناصرها.
وما دام الأمر يتعلق بالمقارنة بين نسقين للقيم ينتميان إلى حضارتين مختلفتين في كل شيء، فسيكون من مقتضيات المنهج الذي سأطبقه أن أفحص وأحلل عينات القيم التي سأعالجها، كلا في سياق البنية الكلية التي تنتمي إليها، متحاشيا بذلك عمليات التعسف التي تصيب عنصرا من العناصر الفكرية عند فصله عن بنيته، وتقييمه وكأنه قائم بذاته لا جذور له ولا علاقة تربطه بعناصر البنية التي تشكل إطاره الحيوي، فلا يخفى على الدارسين مدى الخسارة التي أصابت البحث العلمي من جراء عمليات البتر هذه، فقد عملت في اتجاه معاكس لمطامح البحث العلمي في تحقيق القدراللائق من الموضوعية، بما يؤدي إلى كشف الحقيقة بمختلف مكوناتها وعناصرها. [ ص: 33 ]