الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفصل الثالث:

            القيم التربوية بين التصور الإسلامي والتصور المادي

            القيم التربوية في التصور الإسلامي

            لمسنا من خلال الفصل السابق الإطار التصوري الذي تتحرك في أرجائه القيم التربوية الإسلامية، بطريقة يطبعها التوازن والشمول، والحركية والإيجابية، وما ذاك إلا بفضل ارتباطها القوي بالفطرة، التي هي الخزان أو الينبوع الذي يصدر عنه السلوك الإنساني، مدعوما في ذلك بضوابط الإرادة والحرية التي لا تتعارض في شيء مع الالتزام بضوابط الشرع.. ولمسنا أيضا كيف أن تلك القيم الإسلامية قد كانت لها السيادة في المجتمع الإسلامي الحق، خاصة في العهد النبوي وعصر الخلفاء الراشدين، معبرة عن نفسها في نماذج مجسدة غاية في التسامي والعلو، حتى جاز أن يسمى جيل ذلك العهد بالجيل القرآني الفريد.

            ورأينا أن القيم التربوية الإسلامية لا يمكن أن تنفصل عن الشرع، فهي بالشرع تقوم وتعطي أكلها، وبغيره لا يقوم لها كيان ولا ينتشر لها إشعاع في دنيا الإنسان. إلا أن الأمة الإسلامية قد جاء عليها حين من الدهر، فقدت فيه ارتباطها بذلك المعين الخالد من القيم، في زحمة الصراع الحضاري الذي أفلتت فيه الزمام... وكم نالها من التخبط والتيه، من جراء ذلك الصراع المرير وذلك الوضع الرهيب. ومن لطف [ ص: 91 ] الله عز وجل بهذه الأمة، أنها لا تغفو إلا لتفيق.. فها هي ذي تفتح عينيها وتنفض التراب عن آذانها مؤذنة باقتراب البعث الجديد. ولن يكون هذا البعث إلا بخلع ربقة التبعية والاستلاب.. والخروج من جحر الضب الذي دخلته... ولن يكون ذلك إلا بالرجوع إلى معين القيم، تغرف منه ما ينقع غلتها ويشفي غليلها... فما هي هذه القيم التربوية الإسلامية؟

            كتمهيد للإجابة على هذا السؤال، وتحليل أبعاده، لا بد من التعرض لمسألة تصنيف القيم، أي الكيفية التي يتم بها -وبتعبير آخر- المقاييس المتخذة في هذا التصنيف. الواقع أن التصنيفات تختلف حسب موقع أصحابها ووضعهم من مسألة الاعتقاد أو الرؤية التي ينظرون من خلالها إلى العالم، رغم ما هنالك من بعض القواسم المشتركة.. إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالرؤية الإسلامية، فإن الباحثين الذي ينتمون إليها يتفقون في جوهر التصنيف مهما اختلفوا في الملامح والخطوط الشكلية.. وأسوق هنا مثالا عن أحد التصانيف المستعملة أورده الأستاذان د. عبد الحميد الهاشمي، ود. فاروق سيد عبد السلام، في بحث لهما عن (البناء القيمي للشخصية كما ورد في القرآن الكريم) ، كأساس لتصنيف القيم الموجودة.. لقد صنف الباحثان القيم على مستويين:

            1) تصنيف ثلاثي، يمثل الأبعاد الثلاثة الرئيسة، وهي القيم [ ص: 92 ] المتصلة بعلاقة الإنسان بربه، وتلك التي تتصل بعلاقة الإنسان بنفسه، والتي تنظم العلاقة بين الإنسان والآخر.

            2) تصنيف سداسي، يصنف القيم تبعا للأبعاد الست التي ينقسم إليها أي بعد من الأبعادالثلاثة السابقة وهي: (أ) البعد الروحي، (ب) البعد البيولوجي، (جـ) البعد العقلي المعرفي، (د) البعد الانفعالي العاطفي، (هـ) البعد السلوكي والأخلاقي، (و) البعد الاجتماعي الخاص والعام [1]

            وبهذين التصنيفين معا توصل الباحثان إلى ثلاثين قيمة أساسية.

            أما الدكتور حسن علي حسن فلم يلجأ إلى أي تصنيف في دراسته المعنونة بـ (المفارقة القيمية والتغير الاجتماعي في مجتمع إسلامي) ، وهي دراسة استكشافية تحليلية لواقع المجتمع المصري المعاصر، ولكنه اكتفى باختيار مجموعة محدودة من القيم على ضوء مسح قام به لمجموعات القيم المتمثلة في دراسات "كاظم" (0791) و"روكيتش" (3791) .. وقد توصل د. حسن علي حسن إلى نتائج مهمة.

            أما الطريقة التي اتبعتها في هذه المحاولة، فهي لا تختلف في العمق مع التصنيف الذي استخدمه صاحبا الدراسة الأولى... [ ص: 93 ]

            وتندرج تلك القيمة تحت طائلة الخطاطة التالية ...



            ويقصد بالقيمة الإيمانية، تلك العقيدة المتكاملة التي يتحرك بها المسلم في مجال الحياة، عابدا لربه ومجاهدا في سبيله، وساعيا في الخيرات بإذنه.. وهذه العقيدة، إيمان وثيق بالله لا يتزعزع، وثقة تامة في عدله وقضائه، وتصديق شامل بكتبه ورسله، ومعرفة يقينية باليوم الآخر على نحو ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة. والإيمان الحق بالله عز وجل لا بد من توفره على معرفة حقة بصفات الله تعالى، وإلا ما كان إيمانا ولا كان معرفة بالخالق جل جلاله. ولإيضاح هذه المسألة أضرب عليها مثالا ساقه "أبو عمران" [2] ، في القيروان، وذلك عندما [ ص: 94 ] أثيرت أمامه مسألة الصفات، فطرح السؤال: هل يعرف النصارى الخالق؟ فأجاب بعض الحاضرين بالإيجاب، وأجاب بعضهم الآخر بالسلب وطلب من أبي عمران قول محكم في ذلك.. فقال مجيبا:

            لو سألتم عني رجلا: هل تعرف أبا عمران؟ فقال: رجل طويل يبيع التمر في سوق ابن هشام بالبصرة، هل هذا يدل على معرفة هذا الرجل بي؟ قالوا: لا، لأنهم وصفوك بغير صفتك، فقال: إذن الذين يجهلون الصفات هم جاهلون بالموصوف، فالذي ينسب لله العجز والجهل لا يعرف الله عز وجل.

            فالإيمان بالله تعالى، لا يكفي فيه أن نؤمن بالله موجودا... وأريد هنا أن ألح على الأهمية القصوى لهذه المسألة في درس العقيدة في مؤسساتنا التعليمية والتربوية، حتى نكون أمام نشء لا تنطلي عليه خدعة اليهود والنصارى عند قولهم بأنهم يشتركون مع المسلمين في العقيدة، والحال أن الهوة التي بيننا وبينهم كالتي بين السماء والأرض، فشتان بين من يصف الله عز وجل بصفات الكمال كالقدرة والعلم والإرادة والحياة... إلخ، وبين من ينسب لله العجز أو ينسب إليه الولد..

            إن الإسلام بمجيئه بعقيدة الإيمان بالله، بذلك الوضوح وتلك الدقة والبساطة في نفس الوقت، قد شكل نقلة واسعة للإنسان من حياة التشتت في العقل والنفس، إلى حياة يطبعها التماسك والوحدة [ ص: 95 ] والانسجام والتناغم بين كل مكوناتها، بل إن الشعور الذي ينتاب الإنسان الذي يعيش في أجواء هذه العقيدة، هو في أعلى درجة من السمو.

            إن خيوط هذه العقيدة تضرب بإشعاعاتها في كل اتجاه، وتفجر في الإنسان كل مكوناته لتجد فسحتها وانطلاقتها في كامل أرجاء الوجود... حتى ليمكن القول: بأن نسيج القرآن الكريم نفسه، ومعطياته المعجزة من بدئها حتى منتهاها، في مجال العقيدة والتشريع والسلوك والحقائق العلمية، تمثل نسقا من المعطيات المعرفية كانت كفيلة بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها، أن تهز عقل الإنسـان (...) ، وأن تخلق في تركيـبه خاصة التشوق المعرفي لكل ما يحيط به من مظاهر ووقائع وأشياء [3]

            فما كانت هذه العقيدة لتظل متحجرة في النفوس، جامدة في العقول دون أن تكون لها ثمرة تذاق، ومن ثمار تلك العقيدة الربانية، صياغة الروح المنهجية في الإنسان، وهو ما عبر عنه "د. عماد الدين خليل" بالنقلة المنهجية، تلك التي تكتسي أهمية بالغة في مجال البناء الحضاري.. وقد عبرت عن نفسها من خلال ثلاثة اتجاهات رئيسة: السببية، القانون التاريخي، منهج البحث الحسي التجريبي [4]

            بل إن العقيدة في الله عز وجل لتستقر في النفوس وتثبت في [ ص: 96 ] الأذهان، لا بد من إنارتها بالنظرة السببية، التي تربط الأسباب بالمسببات، لتنتهي في نهاية المطاف إلى مسبب الأسباب الذي تئول إليه السلسلة لا محالة. (إذ بدون هذه القدرة على الربط بين الأسباب والمسببات، فإن العقل المؤمن لن يكون قادرا على التحقق بالقناعات الكافية، ولن يكون بمقدور آيات الله المنبثة في الطبيعة والعالم والوجود، أن تحدث فينا هزة الإيمان العميق المتمخض دوما عن اكتشاف الارتباط المحتوم بين معجزة الخلق وبين الخالق) [5]

            كما أن هذا الاكتشاف لا بد من أن يمر عن طريق تنمية القدرة على التأمل في الأنفس وفي آفاق الطبيعة وما تزخر به من ظواهر... وعندما نقول: القدرة على التأمل، فبدهي أنها تتم عبر الحواس المختلفة، وهي القنوات التي تنفذ منها أشعة المعرفة من خلال الانطباعات والصور التي تسجلها وتبعث بها إلى حجرة العقل، حيث تكمن أجهزة الإدراك والتخيل والتحليل.

            ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقائق في آيات كثيرة، أذكر منها قوله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت : 53) .

            وقوله تعالى: ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ) (الغاشية : 17-20) ،

            وقال جل شأنه: ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه [ ص: 97 ] مسئولا ) (الإسراء : 36) ، ذلك (أن التفكير النظري المجرد لا يؤدي إلا إلى الجدل والمراء والبعد عن واقع الحياة، ومن ثم ربط القرآن بين الفكر وبين آيات الله في الكون ونظمه ونواميسه، وحذر من الانحراف عن النهج، وجعل من التاريخ عبرة للبشرية، وطالب بالسير في الأرض والنظر في مصائر الأمم والحضارات السابقة، والتفكير في سبب هلاكها وفنائها : ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ) (غافر : 21) [6]

            وهنا نصل إلى الاتجاه الثاني من الاتجاهات الثلاثة المذكورة أعلاه، والمتعلق باكتشاف السنن المحركة للتاريخ، والتي في غياب إدراكها حق الإدارك وفهمها غاية الفهم، يصبح الإنسان كريشة في مهب الرياح، ويظل سلوكه، وتظل حركته كلها عرضة للعشوائية والتيه.. وعلى العكس من ذلك، فإن حضور المعرفة بالتاريخ في الأذهان، والوعي بالسنن المتحكمة في سيره، الضابطة لحركته، المقررة لنتائجه -بإذن الله- من شأنها أن تجعل الإنسان مالكا لناصية التاريخ، ممسكا بمقاليده، يسخره في الوجهة الإيجابية البناءة. إن (المنهج) الجديد الذي يطرحـه القـرآن الكريم، يؤكـد أكثر من مرة على أن (التـاريخ) لا يكتسب أهميته الإيجابية إلا بأن يتخذ ميدانا للدراسة والاختبار، نستخلص منه القيم والقوانين التي لا تستقيم أية برمجة للحاضر أو [ ص: 98 ] المستقبل إلا على هداها) [7]

            وهذه بعض النماذج من الآيات التي تؤكد على هذا المنهج، وترسي أسسه وقواعده: قال تعـالى: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) (الأحزاب : 62) ،

            ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ) (الكهف : 55) .

            وقال تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد : 11) .

            وإذا نحن أجلنا فكرنا في القرآن الكريم وتدبرنا في آياته الكريمة، وجدنا الكثير منها يؤكد هذه (القانونية) التاريخية، التي تخضع لها أحداث التاريخ والمجتمع، مما يعطينا مؤشرات واضحة على هذا التمايز الموجود بين نوعين من المحاسبة، النوع الأول يتعلق بالمحاسبة الجماعية التي تجسدها الآية المذكورة، حيث إن المحاسبة هناك تنصب على القوم ما بقوم، ويؤكد هذا المعنى مثل قوله تعالى: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) (الأنفال : 25) ، ويبرزه حديث ( رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث ) (8) . أما المحاسبة من النوع الثاني فهي المحاسبة الفردية، وتكون في الآخرة على عكس المحاسبة الأولى، إذ هي محاسبة دنيوية، وفي ذلك قوله تعالى: ( ونرثه ما [ ص: 99 ] يقول ويأتينا فردا ) (مريم : 80) . ولعل من القضايا التي يجدر التنبيه لها والتأكيد عليها في هذا السياق، هو أنه لا مجال مطلقا لتوهم وجود أي تعارض بين فكرة التاريخ وفكرة اختيار الإنسان وإرادته الحرة، الأمر الذي يعرض الإنسان في صورة سلبية، ويجعل منه أداة طبيعية وجسما خفيفا يجرفه تيار التاريخ... وهذا المنحى الخاطئ هو ما ذهب إليه كثير من المفكرين الغربيين، مما جعلهم يضحون بحرية الإنسان باسم الموضوعية التاريخية. ولكن غاب عن هؤلاء المفكرين أن السنن التاريخية تختلف في طبيعتها عن السنن التي تتحكم في الظواهر الطبيعية!

            فتلك السنن التاريخية على خلاف السنن السارية في ظواهر الطبيعة، تتسم بكونها قضية شرطية، وهي بهذه الخاصية الجوهرية والنوعية كثيرا ما تعبر عن إرادة الإنسان واختياره. من هنا يتبين لنا بشكل دقيق أن الإنسان هو الذي يمثل محور القضية الشرطية، وهذه القضية تمثل علاقة بين الشرط والجزاء... هذه النقطة تتعلق بقضية حرية الإنسان واختياره، وهي من أبرز القيم التربوية.

            والاتجاه الثالث هو الاتجاه الخاص بالبحث الحسي التجريبي، الذي وجد المسلمون أنفسهم في إطاره بكل فاعلية، بتأثير من آيات الله التي ظلت تطرق الأذهان وتصوب الأنظار إلى ملكوت الله عز وجل [ ص: 100 ] وبديع صنعه.. إن كشف القرآن لهذا المنهج أمام أبصار المسلم، زوده بكسب معرفي قيم.. لقد دعا القرآن الناس إلى التبصر بحقيقة وجـودهم وارتبـاطاتهم الكونـيـة عـن طريـق (النـظر الحسي) إلى ما حولهم، ابتداء من مواقع أقدامهم وانتهاء بآفاق النفس والكون، وأعطى للحواس مسئوليتها الكبيرة عن كل خطوة يخطوها الإنسان المسلم في مجال البحث والنظر والتأمل والمعرفة والتجريب، قال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء :36) [8]

            فالإنسان المسلم بموجب هذه الآية، وكثير غيرها، مأمور بأن يستخدم ما وهبه الله من حواس متنوعة في سبيل استطلاع ما يحيط به من ظواهر هذا الكون، يستكنه خباياها، وصولا إلى ضبط قوانينها، بما يساعد على تحقيق وظيفته المنوطة به.. (إننا بإزاء حركة حضارية شاملة، تربط بين مسألة الإيمان ومسألة الإبداع والكشف، بين التلقي عن الله والتوغل قدما في مسالك الطبيعة ومنحنياتها وغوامضها، بين تحقيق مستوى روحي عال للإنسان على الأرض وبين تسخير طاقات العالم لتحقيق الدرجة نفسها من التقدم على المستوى المادي. ولم يفصل الإسلام يوما بين هذا وذلك) [9] إن الإسلام من خلال ما سبق، حريص عبر توجيهاته على مستوى [ ص: 101 ] الاتجاهات الثلاثة، على جعل العقل الإسلامي في منأى عن العقيدة العبثية في الكون، التي توصد منافذ إحساسها وإدراكها، وتغمض عينيها عن رؤية السنن وعلاقة الطاقات الإنسانية بها.. فالذي (لا يرى هذه العـلاقة وهذا الارتبـاط، لا يمكن أن يقـدر المسـئولية الدنيوية ولا المسئولية الأخروية، أي لا يقدر المسئولية الاجتماعية ولا المسئولية الفردية) [10] ولكم جسد الرسول الأعظم -صلوات الله وسلامه عليه- ذلك الحرص من خلال دعوته الحارة إلى الوقوف عند ظواهر الكون، نعمل فيها فكرنا وتدبرنا بكل إجلال وخشوع، ليزيد إيماننا قوة، وعقولنا توقدا واستنارة، ونفوسنا عزما على السير في طريق الله، والمضي على صراطه المستقيم.

            لقد (كانت حياة الرسول صلى الله عليه و سلم فكرا متصلا، ودعوة وتربية على النظر والتفكير، يبيت ليله عابدا باكيا مفكرا في آلاء الله وخلقه. ( قال عبد الله بن عمر لـ" عائشة ": أخبرينا ما رأيت من رسول الله؟ فبكت، وقالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلة حتى مس جلده جلدي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي عز وجل، فقلت: والله إني لأحب قربك وأحب هواك. فقام وتوضأ، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى، ثم اضطجع فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، قال: [ ص: 102 ] يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي هذه الليلة: ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) (آل عمران : 190-191) ، ثم قال: يا بلال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر. ) [11] [12]

            وخلاصة الأمر في هذه القيم المنهجية التي استهدف الإسلام بثها في كيان الإنسان المسلم، أن الإسلام سعى بواسطتها إلى بناء الشخصية العقلية الذكية، القادرة على الاستفادة من كل ما زودت به من جوارح وإحساسات وملكات في إطار من الأصالة والمسؤولية، التي تغذيها القيمة الإيمانية بشكل يضمن عصمة الإنسان من الافتتان بفعل ما يتجمع بين يديه من إبداعات أساسها استخدام قوى العقل في تشكيل مادة الكون وطاقاته المسخرة.

            ولا يفوتني في خلاصة هذه النقطة أن أشير إلى مسألة مهمة، ترتبط بما ألمحت إليه من ضرورة ضبط حدود حركة العقل، وهي مسألة التفقه الذي هو (خطوة عقلية أبعد مدى من التفكير، تجعل الإنسان أكثر وعيا لما يحيط به، وأعمق إدراكا لأبعاد وجوده، وعلائقه في [ ص: 103 ] الكون، كما تجعله متفتح البصيرة دوما، مستعدا للحوار المسئول إزاء كل ما يعرض له على صفحة العالم والوجود : ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) (النساء : 78) .. لقد أكد القرآن على الأسلوب الذي يعتمد (البرهان، والحـجة، والجدال الحسـن) للوصول إلى النتائج الصحـيحة القائمة على الاستـقراء والمقارنـة والموازنة والتمحيص، استـنادا إلى المعطـيات الحسية الخارجـية المتفق عليها، والقدرات العقلية التي تعرف كيف تتعامل مع هذه المعطيات: ( تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (البقرة : 111) [13]

            إننا في ضوء المعطيات العقدية الإيمانية والمعطيات المنهجية مؤهلون لأن نفهم طبيعة الموقف الذي يتخذه الإنسان المسلم من الكون، وكيفية التعامل مع أحداثه وظواهره. (فالمسلمون لا يمكنهم أن ينسبوا شيئا للصدفة أو للأقدار العمياء. فالزلازل والطواعين والجفاف والكوارث -مهما تكن فواجعها وآلامها- من فعل الله، وأنها مرادة الله تعالى من أجل هدف طيب قد لا يظهر للإنسان في الوقت الحاضر. وما دامت من فعل الله، فإن المسلم لا ينهار أمامها، لأنه يعرف أن الله الذي قدرها وأوجدها هو في نفس الوقت الحافظ الرحيم بعباده. لهذا فإنها في نظر المسلم ابتلاء من الله، يختبر بها عباده.. [ ص: 104 ] وهذا الابتلاء يظل دائما خاضعا لمقتضى القوانين والنواميس التي بثها الله في الكون، ليصل بهم من خلالها إلى مزيد من الثبات والإيمان والتفاؤل بالمحصلة النهائية. هذا الجانب من العقيدة الإسلامية هو على وجه التحديد ما تحتاجه البشرية في مواجهة المآسي) [14]

            إن هذه المعطيات التي تتعلق بالقيم المنهجية في علاقتها وارتباطها بالقيمة الإيمانية العقدية تندرج جميعا في إطار النظر إلى النفس والآفاق، مصداقا لقوله تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت : 53) .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية