الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر

            عبد المجيد بن مسعود

            الفصل الأول: القيم التربوية والثقافية

            العلاقة بين القيم التربوية والثقافية

            إن طبيعة الثقافة من حيث كونها ربانية أو بشرية، لها أثر فاعل وحاسم في نوعية القيم والمعايير التي تتشكل منها تلك الثقافة، وهي بالنتيجة ذات أثر حاسم في أنماط السلوك التي درج عليها الأفراد. وإذا كانت التربية تعني من بين ما تعنيه (اقتباس المعارف من كنوز الثقافة بغية النجاح في الحياة، ثم العيش بانسجام مع كياننا) [1]

            ، فإننا نعلم أن تلك المعارف تتألف من جملة ما تتألف منه، من نسق القيم التي لا مناص من أن يتم تمثلها من طرف الأفراد، إذا ما أرادوا أن يرتبطـوا برباط الانسجام مع البيـئة التي ينتمون إليها، إذ الثقـافة كما يرى مالك بن نبي رحمه الله، هي التعبير الحسي عن علاقة الفرد بهذا العالم، أي بالمجال الروحي Noosphére الذي ينمي فيه وجوده النفسي، (أي إنها) نتيجة الاتصال بذلك المناخ [2]

            وعلى هذا الأساس، فإن (الثقافة الشخصية نقطة لقاء بين علم النفس وعلم الإنسان، فهذا العلم يذكرنا بأننا لا نستطيع أن نفهم [ ص: 53 ] الفرد فهما جيدا بغير أن نأخذ في اعتبارنا الوضع الثقافي ومقومات الثقافة، ولا أن نفهم مؤسسات الثقافة بغير معرفة بالأفراد الذين يشـاركون فيها.. وكثـير من جوانب سلوك الإنسان ينبغي أن تفسر لا في ضوء الفرد نفسه، بل وأيضا في ضوء الثقافة، سواء كانت خارجية أو داخلية.. ونستطيع أن نلاحظ الثقافة في سلوك الأفراد) [3]

            إن بإمكاننا أن نخلص بمقتضى المعطيات إلى أن اختلاف الأفراد من حيث أنماط السلوك، إنما هو عائد إلى اختلاف الثقافات التي يتحركون في مناخها، وهي تختلف باختلاف طبيعة القيم التي تشكل نسيجها وتكون نسغها. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من وضعه في الحسبان كلما تعلقت الهمم بإصلاح الخلل في البناء الاجتماعي والحضاري، لأن المفروض في الفعل الثقافي (أن ينمي في الإنسان أساسا دوافع البناء، وإذا شئت فقل: إن الفعل الثقافي، ككل فعل تغييري، ينبغي أن يشتمل على عنصري الهدم والبناء: هدم العناصر المظلمة التي تشد الإنسان إلى الحضيض وتعوقه عن الانطلاق (...) وبناء العناصر المشرقة التي تدفع بالإنسان إلى الحركة من أجل أن يسمو إلى مكانة التكريم الإلهي) [4]

            وتجدر الإشارة هنا إلى حقيقة جوهرية من حقائق النفس [ ص: 54 ] والاجتماع، وهي أن العناصر المشرقة المذكورة، لن تتحول إلى فعل تغييري إلا إذا تمثلتها النفوس وأدت بالتالي إلى تجانس بينها في الاتجاه والسلوك. (فلدى ميلاد المجتمع الإسلامي مثلا، كانت ثقافة هذا المجتمع جد متجانسة، متحدة الطابع عند الخليفة والبدوي البسيط، وذلك يتجلى على سبيل المثال في ( موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما خطب في المسلمين غداة توليه الخلافة، فقال قولته المشهورة: أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه ) وكان الرد على هذه القولة ما نطق به أحد هؤلاء البدو البسطاء: (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا) [5]

            هذا الحوار الرائع، كان يعكس بشكل عجيب وحدة الفكر والدوافع والعواطف التي كانت تحكم سلوك الخليفة والبدوي البسيط. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هنا كان يتجه بخطابه في تلك اللحظة إلى مجتمع له منظومة خاصة من القيم تغلغلت في نفوس أفراده واختلطت بدمائهم، فولدت نمطا واحدا من الفكر والسلوك [6]

            ولا يفوتني - وأنا بصدد مناقشة العلاقة بين القيم التربوية والثقافة- أن أؤكد أن طبيعة البناء الثقافي -وبالتالي النسق القيمي- هي التي تحدد حجم المساحة من نفس الإنسان التي يستجيب لها ذلك الإطار [ ص: 55 ] الثقافي. فإذا كان ذلك الإطار فقيرا أو ناقصا، بحيث يركز على أبعاد بعينها من الكيان البشري، فإن ذلك النقص لاحق لا محالة بتلك النفس، منعكس عليها بأكملها، والعكس صحيح تماما. أي أنه بقدر ما يكون الإطار الثقافي متكاملا بفضل مضمونه الغني من القيم التربوية التي تمس جوانب الكيان الإنساني بأكملها، ينعكس ذلك على الإنسان كمالا وتوازنا وتماسكا، يشد من أزر الإنسان في قيامه برسالته الحضارية، وهي وظيفة الاستخلاف في هذه الأرض.

            فالثقافة (تعمل على تحرير الإنسان وعلى تقييده في نفس الوقت، فهي تقيد حريته في التصرف سواء من الخارج (من خلال القانون والتشريعات) أم داخليا (من خلال العادة والضمير) حتى تخلق النظام الاجتماعي الضروي للحياة الاجتماعية في أية صورة.. وهي تحد الإنسان أيضا، لأنها لا تسمح له إلا بتنمية (....) شريحة واحدة من طاقته الكلية...) [7]

            غير أن هذا المعنى يعبر عن حقيقة نمط واحد من الثقافة، هو نمط الثقافات البشرية التي تعيش على جهل مقيم بالإنسان وبحاجاته الحقيقية وأشواقه العميقة. فهي مهما بذلت من جهد تظل قاصرة عن الوفاء بتلك الحاجات والاستجابة لتلك الأشواق.. أما النمط الثقافي [ ص: 56 ] الآخر وهو الثقافة الربانية، فمن بدهيات الأشياء أنها تحقق الإشباع لكل حاجات وأشواق الإنسان _ إذا ما ربط وجوده بها _ لأنها صادرة من خالق الإنسان الذي يعلم من خلق.

            وإذا نحن تحدثنا بالنسبة المئوية على طريقة بعض المشتغلين بالمسألة الثقافية، قلنا بكل يقين: إن الثقافة الربانية ترعى وتنمي 100% من قدرة الإنسان الإبداعية، لأنها تطلق كل طاقاته من عقالها، في إطار من الضبط والتنظيم، يجعله في منجى من إهدار أي جزء من تلك الطاقة فيما ليس في صالح الإنسانية بعامة. وإن العطاء الذي قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية خير دليل على ما أقول.

            إن الحقيقة السالفة تفسر لنا لماذا توقف ركب الحضارة الإسلامية عن العطاء عندما اصطدم المسلمون بصخرة الاستعمار، بحيث تجمدت قواهم وتعطلت قدراتهم الإبداعية، وما زالوا يعانون من هذا الشلل الفظيع، لأن نفوسهم ما زالت مقطوعة الصلة بذلك التيار العظيم الذي أعطاها الدفع القوي في عهود التألق والازدهار.. إنه تيار الإسلام، عقيدة وشريعة ومنهج حياة، وما يتضمنه كل ذلك من قيم شاملة.

            ولعل فحوى هذه الحقيقة هو ما ظل مالك بن نبي رحمه الله يدندن حوله في كتاباته التي تندرج في إطار مشكلات الحضارة. [ ص: 57 ] يقول في كتابه (مشكلة الثقافة) : (وسنظل نكرر ونلح في تكرارنا أن أزمة العالم الإسلامي منذ زمن طويل، لم تكن أزمة في الوسائل وإنما في الأفكار، وطالما لم يدرك هذا العالم تلك الحقيقة إدراكا واضحا، فسيظل داء الشبيبة العربية الإسلامية عضالا بسبب تخليها عن ركب العالم المتقدم، فعلى المربين في البلاد العربية والإسلامية أن يعلموا الشبيبة كيف تستطيع أن تكشف طريقا تتصدر فيه موكب الإنسانية، لا أن يعلموها كيف تواكب الروس أو الأمريكان في طرائقهم، أو كيف تتبعهم؟) [8]

            وأكثر من ذلك، فإن على هؤلاء المربين وعلى من بيدهم مقاليد الأمور -وهم الذين يملكون الحل والعقد- على هؤلاء جميعا أن يسارعوا إلى تنقية الإطار الثقافي الذي يتحرك فيه الإنسان المسلم من العوائق والمثبطات التي تسحق الإنسان المسلم بلا رحمة، وتمارس عليه تعذيبا رهيبا، وتهز بنيانه النفسي والعقلي هزا عنيفا، لا يكاد يقوى على مقاومته والثبات في وجهه إلا من أوتي بسطة من العزم والإيمان.

            والإسلام يسعف هؤلاء المسئولين، إذا خلصت نياتهم وصح عزمهم، لأن منهجه "لبناء الثقافة منهج شامل، كما يجب أن يكون إن فهمناه حق الفهم.. وهذا الشمول هو من الخصائص الأساسية للشريعة، [ ص: 58 ] فكل جانب من الحياة الإنسانية له حكمه الملائم في الإسلام. (...) ومن هنا فإن واجب المفكر المسلم أن "يؤسلم" الحياة، أي أن يحدد نظريا وتطبيقيا علاقة الإسلام بكل جزئية في الحياة الإنسانية [9]

            وخلاصة القول: (إن الديانة (عندما) تكون سعيا وراء مثال روحي، وتوقا صادقا إلى تحقيقه، فهي بحد ذاتها المظهر الأسمى للثقافة) [10]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية