القيم التربوية المادية المنبثقة من التصور العقدي والمنهجي:
- قيمة الحرية وموقف الغرب منها لقد كانت الحرية دوما [ ص: 111 ] ضرورة من الضرورات النفسية في شعور الإنسان، ظلت كذلك عبر التاريخ، وفي جميع المجتمعات، فمسألة الحرية مسألة وجودية ذات علاقة أصيلة ووثيقة بكيان الإنسان... ومن هنا كان إرساء مفهومها على أساس الوضوح والموضوعية، مدعاة لثبات ووضوح حركة الإنسان في الكون، وسيرها في الاتجاه السديد والمثمر.. فهل كان لقيمة الحرية في المجتمع المعاصر حظ من تلك الشروط؟
إن واقع الفكر والحياة في مجتمع الغرب ينبئ أن الحرية هناك تنفصل عن الإحساس بالمسئولية، وتتم في غياب أدنى شعور بالخضوع للمحاسبة، أي في غياب الاعتقاد بوجود الله عز وجل... بل إن الحرية هناك في تلك المجتمعات لا تكاد تجد لها أثرا في النفوس في مفهومها السليم وعمقها الأصيل، حتى إننا لا نجانب الصواب إذا حكمنا على الفرد في ظل مجتمع الغرب بأنه محروم من نعمة الحرية، محكوم عليه بسجن قاتم، فإذا نحن استنطقنا مضامين وأشخاص ركام المسرحيات التي ألفها كتاب (غربيون) وجدناها صادقة تعكس لنا مدى ثقل الحياة والواقع على كاهل الإنسان الغربي، بحيث إن شعورا بالاختناق والتمزق لا ينفك يلاحقه في كل لحظة من لحظات حياته.
وإذا نحن التفتنا -ضمن نفس الحضارة- إلى الموقف الماركسي، وجدناه يكبل حرية الإنسان بما يسمى بالحتمية التاريخية، التي تترجم عن نفسها في صورة الصراع بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج، فالإنسان إزاء هذه الحتمية التاريخية لا يملك أي هامش للفعل والحركة إلا أن يحني رأسه ويخضع لمقتضيات ونتائج الصراع. [ ص: 112 ] إنا إذا أدركنا سلطان الإعلام الرهيب ودوره التربوي في المجتمع المعاصر، وعرفنا أن ما تتفتق عنه قرائح الكتاب يتحول إلى مادة إعلامية تعزز بأحدث التقنيات التي توصلت بها التكنولوجيا، إذا أدركنا ذلك، أدركنا مدى الإيحاء الخطير الذي يتسلل إلى نفوس وأذهان الناس في الغرب فيما يتعلق بالموقف من الحرية، والوضع الذي يستشعره الإنسان إزاء الكون والمجتمع والأحداث.
- قيمة الحق إذا رجعنا دائما إلى معين الأدب نستشف منه القيم التي تحكم رؤية الإنسان الغربي، فإننا نجد قيمة الحق، والالتزام بالحق، عرضة للفرار منها والتنكر لها، لأنها في اعتبار الإنسان الغربي تتنافى مع اللذة الزائفة التي يجنيها من الطريق السهل، طريق السكوت على الحق، كما في مسرحية "بعد السقوط" للكاتب المسرحي "ميللر" حيث يصور الحق بأنه يسبب العذاب.
أين هذا الموقف المائع الغريب من موقف الإسلام من الحق؟ ذلك الموقف الذي يدفع إلى نشدان الحق والتضحية في سبيله بالغالي والنفيس، ويجعل التواصي به شرطا من شروط النجاة من الخسران، مصداقا لقوله تعالى في سورة العصر: ( وتواصوا بالحق ) (العصر : 3) .
- قيمة العفاف (أو العفة) هل للعفاف كقيمة تربوية وجود في المجتمع الغربي المعاصر؟ إذا انطلقنا من تفسير علماء الأخلاق للعفة، وهو (ضبط النفس واعتدال ميلها إلى اللذة، سواء في ذلك [ ص: 113 ] اللذائذ الجسمية من المأكل وغيره، واللذائذ النفسية من الانفعالات والعواطف) [1] ، إذا انطلقنا من ذلك التعريف، ونظرنا في ضوئه إلى واقع المجتمع المعاصر، فإننا نراه بعيدا كل البعد عن معاني العفة، متهالكا على الملذات، يعب منها بنهم لا ينتهي وظمأ لا يرتوي، وليس ذلك بالغريب، إذ إننا لا يمكن أن ننتظر سلوك العفة أو خلق الاعتدال من أناس يعتقدون أن مساحة الحياة لا تتجاوز العالم الدنيوي الأرضي إلى عالم آخر من صفته الأبدية والخلود. إننا إذا لجأنا إلى الإنتاج المسرحي المعاصر، زودنا بصورة معبرة عن ذلك الارتماء الهستيري في أحضان الماديات. ففي مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف لـ" بيرندللو"، نجد أن الانسياق وراء تيارات الرغبات يعصف بكل شيء، حتى العرض وهو من أقدس المقدسات، يداس عليه في سبيل المزيد من الثراء، وأن "الماكيافيللية" تكشر عن أنيابها البشعة عبر تلك المشاهد.. ويجد هذا الانسياق أبلغ تعبير له في مسرحية "كل شيء في الحديقة" للكاتب الإنجليزي "جايلز كوبر Giles Cooper".
إنه عالم تنتهك فيه الأعراض وتذبح القيم، وتقدم قربانا للعجل الذهبي. فلا مكان إذن للعفة والغيرة، في خضم الغرائز الهائجة والأهواء الطائشة والمطالب التي لا تقف عند حد. [ ص: 114 ]
- قيمة الصدق إذا لم يكن هناك عفاف، فمن أين لقيمة الصدق أن تتسرب إلى ذلك المجتمع البائس؟ إن المجتمع المعاصر قد أصبح محروما من جهاز المناعة الذي يقيه من الجراثيم الفتاكة التي تنفذ إلى كيانه، ومن هنا فإن ما لا يحصى من تلك الجراثيم السامة تنفذ إلى رئتيه وعقله وقلبه، تعبث فيها كما تشاء، دون أن يصدر منه أدنى رد فعل.. (لقد أصبح النفاق والغش والكذب والتذبذب، وكلها صفات حذرت منها الأديان السماوية، إلى جانب تنافيها مع المثل الإنسانية التقدمية والمعنوية والفلسفية والخلقية، أصبحت هذه الصفات ضربا من التكتيك المشروع في الأيديولوجيات المعاصرة للدول الكبرى، وليس فقط على مستوى الفرد، وإنما على مستوى الجماعات، بل والمجتمع بأكمله) [2]
- التعاون أم الأنانية أي من هذين القيمتين يسود المجتمع المعاصر؟ لقد درج كثير من الناس علـى التمييز - في الإجابة على هذا السؤال- بين نظامين: الرأسمالي والنظام الماركسي الشيوعي. فيصورون النظام الرأسمالي قائما على الفردية والأنانية، ويصورون النظام الشيوعي قائما على الجماعية ونكران الذات. فهل صحيح هذا الفرق المزعوم؟
الواقع أن كلا المذهبين أو النظامين ينتمي إلى حضارة واحدة، [ ص: 115 ] مشتركة الجذور والقيم، فالنظرة المادية الصرفة هي التي تحكم موقفهما من الوجود.... وكلاهما يقوم على نظرة فردية، ويستند إلى الدوافع الذاتية والأنانية، فالرأسمالية تكرس في الأفراد المحظوظين أنانيتهم، وتفسح لهم المجال لاستغلال الآخرين، والاستهتار بحقوقهم، بينما الماركسية تتجه إلى غير هؤلاء المحظوظين ممن لم يحظوا بتلك الفرص، فتثير فيهم الدوافع الذاتية والأنانية، وتؤكد على ضرورة إشباعها. وتسعى الماركسية إلى تنميتها بوصفها القوة التي يستخدمها التاريخ في تطوير نفسه [3]
- مفهوم أو قيمة العلم من المعلوم أن العلم قد أصبح من مميزات الحضارة الغربية المعاصرة، ولكن لنكون دقيقين في كلامنا، ينبغي أن نبين ما طبيعة هذا العلم الذي يسود الحضارة الغربية ويعتبر عنوانا عليها؟ وأبادر فأقول: بأن ذلك العلم لم يبرح حدود عالم الطبيعة التي لم يرتد منها إلا مساحة ضيقة إذا قيست بالآفاق المجهولة. وليست العقدة كامنة هنا، فهذا أمر طبيعي، ولكن العقدة كامنة في الأساس المادي الذي وضع عليه بناء العلم في الغرب، وفي الرؤية المادية التي ينظر من خلالها إلى نتائجه وثمراته، تلك الرؤية التي أدت إلى نتيجة حتمية هي الاعتداد بالعلم في صفته المادية، والاغترار بقدراته على اختراق المجهول وتحطيم الحواجز، وتحويل الإنسان إلى رخاء. [ ص: 116 ]
ولكن الغربيين يفتقدون إلى الشمول في نظرتهم إلى العلم، فيعتبرون أن هذا الحيز المكاني الضيق الذي يتحركون فيه هو كل شيء. وخطورة هذا المفهوم المحدود للعلم- القائم على الفلسفة المادية- تكمن في التطاول على عالم ليس من طبيعة مادية، هو عالم النفس بدروبه ومجاهله ومنحنياته، الأمر الذي تمخضت عنه مجموعة من النظريات تزعم لنفسها فهم النفس الإنسانية. وهذا المفهوم المحدود للعلم لدى الغربيين هو ما يعبر عنه قوله تعالى: ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) (الروم : 7) .
فإذا كان العلم عند المسلمين قد ارتبط بالدين ونشأ في أحضان توجيهاته، التي حركت عقول العرب وغيرهم بعد سكون، وسار في ظل القيم السماوية، فإن العلم في الغرب قد انفصم عن الدين بسبب تلك الملابسات النكدة التي وقعت بين العلماء والكنيسة الضالة.. وحتى في حالة العلماء المؤمنين بالمسيحية، فإن (مما يدعو إلى الغرابة والضحك معا اتفاق بعض العلماء على أن يكونوا علماء طوال الأسبوع، وأن يكونوا مؤمنين بمعنى الكلمة في أيام الآحاد.. وأن يكونوا علميين حينما يكتبون في العلوم الطبيعية... على أن يكونوا بعد ذلك مؤمنين في بيوتهم وفي تصرفاتهم) [4] [ ص: 117 ]
وبعد أن جردت الحضارة الغربية العلم من إطاره الديني الإسلامي الأصيل، لم يكن غريبا أن يتجه بنتائجه هذا التوجه التخريبي، الذي أرعب الإنسانية جمعاء وروع أمنها ... فالعلم بدون دين فاقد للبصيرة، وهو بمثابة وحش ضار يهلك الحرث والنسل، فشتان بين علم هذه حاله، وبين علم شامل للدنيا والدين، نافع للإنسان، منير له سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.