المبحث الأول: ما المقصود بفقه الواقع؟
«فقه الواقع» مركب إضافي أشبه بالمركبات الإضافية: فقه السيـرة، فـقه الحديـث... والمعـاجم لا يمكنـها أن تعطيـنـا تعـريفا أو معنى لهذه المركبات لاحتوائها على أكثر من مفردة. ثم إن «فقه الواقع» لم يصبح بعد علما قائما مقعـدا له كباقي العلوم التي حظيت بتعريفات كأصول الفقه، وأصول الدين وتاريخ الإسـلام... مـن هـنا، كان لا بـد لهـذا المـركـب الإضافي مـن أن يمـر بمـحـطتـين للحـصول عـلى تعريف يـفي بالمدلـول ويحـصل مـنـه المقصود.
1- معنى كلمة «فقه»
فقه الأمر: أحسن إدراكه.
وتفقه الأمر: تفهمه وتفطنه. [ ص: 40 ]
والفقه: الفهم والفطنة... وهو العلم أيضا [1] .
وهو الفقه الذي دعا به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لابن عباس : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» [2] . يقول الشيخ يوسف القرضاوي : «أي ينير الله بصيرته، فيتعمق في فهم حقائق الدين وأسراره ومقاصده، ولا يقف عند ألفاظه وظواهره» [3]
2- معنى كلمة «واقع»
عدت إلى لسان العرب أبحث عن كلمة «واقع» لكن دون جدوى، وقلت في نفسي: إن الكلمة محدثة، وربما أجد بغيتي في المعجم الوسيط باعتباره يجمع بين الكلمات العربية الأصيلة وبين المفردات المحدثة والدخيلة، فلم أجد سوى كلمة «واقعية»، وهي في الفلسفة: مذهب يلتزم فيه التصوير الأمين لمظاهر الطبيعة والحياة كما هي، وكذلك عرض الآراء والأحداث والظروف والملابسات دون نظر مثالي، أو مذهب أدبي يعتمد على الوقائع، ويعنى بتصوير أحوال المجتمع [4] [ ص: 41 ]
ويرى الشيخ القرضاوي أن الواقعية في الإسلام تعني «مراعاة واقع الكون من حيث هو حقيقة واقعة، ووجود شاهد، ولكنه يدل على حقيقة أكبر منه ووجود أسبق من وجوده، وهو وجود الواجب لذاته، وهو وجود الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا» [5] ، وهي من خصائص الإسلام.
وتكلم الدكتور النجار عن الواقع، فقال: «المقصود بالواقع... الأفعال الإنسانية التي يراد تنزيل الأحكام عليها وتوجيهها بحسبها» [6]
إلا أن هذا التعريف يحصر الواقع في الأفعال الإنسانية.. وقد ذهب إلى الرأي نفسه الدكتور الخادمي ، فقال «والواقع ليس إلا مجموع الوقائع الفردية والجماعية، الخاصة والعامة» [7] [ ص: 42 ]
وقد وسع الدكتور عبد المجيد النجار من تعريفه في كتاب لاحق، حيث قال: «نعني بالواقع ما تجري عليه حياة الناس، في مجالاتها المختلفة، من أنماط في المعيشة، وما تستقر عليه من عادات وتقاليد وأعراف، وما يستجد فيها من نوازل وأحداث» [8]
فالواقع إذن: كل ما يكون حياة الناس في جميع المجالات، بكل مظاهرها وظواهرها وأعراضها وطوارئها.
3- معنى فقه الواقع
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة : «فالنزول إلى الميدان وإبصار الواقع الذي عليه الناس، ومعرفة مشكلاتهم ومعاناتهم واستطاعاتهم وما يعرض لهم، وما هي النصوص التي تتنزل عليهم في واقعهم، في مرحلة معينة، وما يؤجل من التكاليف لتوفير الاستطاعة، إنما هو فقه الواقع، وفهم الواقع، إلى جانب فقه النص» [9]
فتنزيل النصوص إنما هو ثمرة فقه الواقع وتفاعل النص مع الواقع، أو هو فقه التنزيل، كما سنرى لاحقا، وإنما يطلق عليه فقه الواقع تجاوزا. [ ص: 43 ]
ويرى الدكتور القرضاوي أن فقه الواقع «مبني على دراسة الواقع المعيش، دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصاءات» [10]
هذا التعريف يجعل من دراسة الواقع أساسا لبناء فقه الواقع، إلا أننا يمكن أن نعتبر فقه الواقع دراسة له.
وعرف الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله فقه الواقع، فقال: «هـو الوقـوف على ما يهـم المسلمين مما يتعـلق بشـئونـهم أو كيـد أعـدائـهم، لتـحـذيـرهم والنهوض بـهم واقـعيا لا نـظـريا، أو انشغالا بأفكار الكفار وأنبائهم... أو إغراقا بتحليلاتهم وأفكارهم» [11]
فقوله «الوقوف على ما يهم المسلمين» هو كلام على المصالح، والمصالح إنما يحددها فقه الواقع، أو هو نتيجة الدراسة المستفيضة لهذا الواقع.
والذي أراه، من خلال ما سبق من تعريف للفقه وللواقع، أن فقه الواقع يمكن أن يعرف على الشكل التالي: [ ص: 44 ]
«هو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها».
ولعل غياب الدراسات والكتابات الخاصة في الموضوع هو الذي يجعـل هذا الفـقه غـامـضا في الأذهـان، وتعريفاته عائمة وغير دقيقة [12]