الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        فقه الواقع (أصول وضوابط)

        الأستاذ / أحمد بوعود

        المبحث الثاني: مكانة الواقع في المنهاج النبوي

        إن الله عز وجل خاطب نبيه بالقرآن، وكانت مهمته صلى الله عليه وسلم التبليغ والتبيين لما جاء في الكتاب العزيز. وكان عليه الصلاة والسلام [ ص: 111 ] قرآنا يمشي على الأرض، لما كان يتمتع به من صفات قرآنية عليا، فكانت سيرته منهاجا واقعيا.

        وقد رأينا مكانة الواقع في القرآن الكريم، ونبحث الآن في السيرة النبوية عن بعض مظاهر تقدير الواقع، تكون لنا منارا نستضيء به في صحوتنا المباركة، ذلك أن (العودة إلى بعض مراحل السيرة فيما قبل مرحلة الاكتمال والكمال للمجتمع القدوة، ومحاولة الاستفادة بها لحل المشكلات المشابهة، من واقع المجتـمع واستـطـاعته، لا تعـني هنـا النكـوص والتراجـع، بمـقـدار ما تعني المراجعة للواقع، وظروفه، واستطاعته، ومحاولة تحضيره، والنهوض به في ضوء الرؤية الشاملة لمسيرة مجتمع القدوة ) [1] .

        وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم خصبة بمظاهر التعامل مع الواقع واعتباره، ذلك أنها التطبيق الفعلي للقرآن الكريم. وسنبين هنا وجهين لمظاهر الواقع، يتمثل الأول في الإجابات المختلفة عن السؤال الواحد الذي كان يوجه للنبي صلى الله عليه وسلم من سائلين مختلفين. ويتمثل الوجه الثاني في صور التعامل مع الواقع في السيرة النبوية الشريفة. [ ص: 112 ]

        1- أجوبة متعددة وسؤال واحد

        إن المتتبع لكلام النبي صلى الله عليه وسلم يجد أجوبة متعددة للسؤال الواحد، نظرا لتعدد السائلين واختلاف أحوالهم.

        مثلا: عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ نجد أجوبة متعددة، حتى يخيل إلينا أن هناك تناقضا. وكذلك عندما سئل: أي الناس أفضل ؟ وحين يقال له: أوصني. أو طلب منه عمل ينتفع به، وغير ذلك.

        نعم، يخيل إلى من يسمع أجوبته وتوجيهاته المختلفة أن هناك تناقضا -كما سنرى- ولا يصح أن يكون التناقض في رسالة ربانية إلهية هي خاتمة الرسالات، فإذا وضعنا في اعتبارنا اختلاف أحوال السائلين زال ما قد يتوهم من تناقض. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أفقه الدعاة بواقع الناس وأحوالهم.

        أ- علمني شيئا أقوله

        صحابة كثر جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه: علمنا شيئا نقوله، أو: قل لنا قولا. فيجيب أجوبة مختلفة.

        فهـذا ( فـروة بـن نوفـل رضي الله عنه أتى النـبي صلى الله عليه وسلم فـقـال: [ ص: 113 ] يا رسول الله، علمني شيئا أقـوله إذا أويت إلى فراشي، فقال: إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ: قل يا أيها الكافرون، فإنها براءة من الشرك ) [2] .

        وعن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن أبا بكر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه ) [3] .

        فانظر كيف اختلف الأمر بين الإيجاز والإطالة، وكيف اختلف المضمون! وما كان ذلك عبثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        ( وعن سعد بن أبي وقـاص رضي الله عنه ، أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : علمني دعاء لعل الله ينفعني به، قال: قل: اللهم لك الحمد ولك الشكر كله، وإليك يرجع الأمر كله ) [4] . [ ص: 114 ]

        ولعل الاختلاف واضح بين هذا الحديث وما سبق، فما سبق كان خاصا عند الاضطجاع، وهذا عام.. وإذا اختلف عن سابقيه، فهو يختلف كذلك عن إجابته صلى الله عليه وسلم على من جاء يسأله عن أن يعلمه دعاء جامعا يدعو به، ( فقال له: قل اللهم إني أسألك باسمك الطاهر المبارك الأحب إليك، الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت ) [5] .

        وإذا كان هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمـهم قـولا ودعـاء، فيقول لهم ما سمـعـنا، فـإن ( سفيـان ابـن عبد الله الثقفي رضي الله عنه ، قال: قلت يارسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، فقال: قل: آمنت بالله، ثم استقم ) [6] .

        إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واعيا بطبيعة الاختلاف من شخص [ ص: 115 ] إلى آخر، ومن حال إلى آخر، بفراسته صلى الله عليه وسلم . كان يدري أي أمر يصـلح لهـذا، وأي كلام ينـاسب ذاك. وما يوضح لنا هذا أكثر ما قـاله صلى الله عليه وسلم لمـريض عاده: ( هـل كنت تـدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله، لا تطيقه [أو: لا تستطيعه] أفلا قلت: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. فدعا الله له فشفاه ) [7] .

        ب- أي المسلمين خير ؟

        سئل النبي صلى الله عليه وسلم مرات عن أي المسلمين خير؟ وأي المؤمنين أفضل؟ فاختلفت الأجوبة باختلاف السائلين والمناسبات والأحوال. فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم : ( أي المسلمين خير؟ قال: خير المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده ) [8] . [ ص: 116 ]

        كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: ( أي الناس أفضل ؟ فقال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه، قال: ثم من ؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره ) [9] .

        فانظر كيف اختلف الجواب من مؤمن يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه، ومؤمن في شعب من الشعاب، إلى من سلم المسلمون من لسانه ويده.

        جـ - أي الجهاد أفضل؟

        ( عـن أبـي أمـامة الباهـلي رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرمي الجمرة، فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أحب إلى الله عز وجل ؟ فسكت عنه حتى إذا رمى الجمرة الثانية عرض له فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أحب إلى الله عز وجل ؟ قال: فسكت عنه، ثم مضى رسول الله حتى إذا اعترض في الجمرة الثالثة عرض له فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أحب إلى الله عز وجل ؟ قال: كلمة حق تقال لإمام جائر ) [10] . [ ص: 117 ]

        فالجهاد ليس سيفا فقط، بل يكون أيضا كلمة تقال لسلطان جائر ليكف عن جوره.

        ويذكر هذا الحديث بحديث آخر ( عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أو لا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور ) [11] .

        انظر كيف راعى النبي صلى الله عليه وسلم حال كل سائل.

        د- أوصني

        تعدد الناس الذين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه الوصايا: أوصني، فتعددت وصاياه بتعدد أحوالهم وشخصهم.

        ( فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قـال: أردت سفرا فقلت: يا رسول الله أوصني، فقال: اعبد الله ولا تشرك به شيئا، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وكل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية ) [12] . [ ص: 118 ]

        وكان معـاذ رضي الله عنه قد طـلب وصيـة عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقال له: ( أخلص دينك يكفيك القليل من العمل ) [13] . فربما كان معاذ، وهو عامل في اليمن، يقضي حوائج الناس، لا يجد الوقت الكثير للاستغراق في العبادة وقضاء الوقت كله متنفلا متبتلا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص حيث يكفيه القليل من العمل. وهذه الوصية تختلف عن سابقتها.

        وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أريد السفر، فأوصني، ( فقال: أوصيك بتقوى الله تعالى والتكبير على كل شرف ) [14] .

        اختلفت الوصية في السفر بتعدد أسفار الشخص الواحد، واختلفت كذلك باختلاف الشخصـين في الموضـوع الواحد، وهو السفر كما رأينا.

        ( وقال حرملة رضي الله عنه : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ركب من الحـي فصـلى بنا صلاة الصبـح، فجـعـلت أنظر إلى الذي بجنبي ولا أكاد أعـرفـه من الغـلس، فـلـما أردت الرجـوع، قلت: أوصـني [ ص: 119 ] يا رسول الله، قال: (اتق الله، وإذا كنت في مجلس فقمت فسمعـتهم يقـولون ما يعجـبك فـائته، وإذا سمعتهم يقولون ما تكره فاتركه ) [15] .

        ( وعن سعيد بن يزيد بن الأزور الأزدي رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني، فقال: (أوصيك باتقاء الله، وأن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك ) [16] .

        وصايا مختلفة لأناس مختلفين، لكل ما يناسب حاله وأوضاعه. إنها دعوة الإسلام، وإنه نبي الرحمة. صيدلية واحدة بها أدوية متنوعة لكل الناس في مختلف الأحوال!

        2- صور من تقدير الواقع في الهدي النبوي

        في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم السمات الأساسية للدعوة الإسلامية ومنهاجها الواضح، إذا ما درسناها وتعمقنا في فهمها استخلصنا فقها واقعيا ينير لنا سبيل الدعوة في هذا العصر. [ ص: 120 ]

        ولقد لاحظنا فيما سبق كيف كانت أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى، ومن وضع إلى آخر. ومن قبل رأينا كيف اهتم القرآن بواقع الناس، فتبينت بذلك رحمة الإسلام وسعته وصلاحيته لكل زمان ومكان.

        ومن يستعرض السيرة النبوية الشريفة يجد النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس حسب أفهامهم، ويعاملهم ويخاطبهم حسب قدراتهم، كما كان يراعي أحوالهم في المنشط والمكره، ويعتبر حاجاتهم ويرأف بهم وييسر عليهم، ويرفع عنهم الحرج. إنها ملامح أساسية للدعوة النبوية، نعرض بعضا منها لاستخلاص العبر والحكم، لتكون بذلك منهاجا واقعيا واسعا شاملا وكاملا للدعوة إلى الله عز وجل .

        أ- مخاطبة الناس حسب الأفهام ودرجات الوعي

        كان النبي صلى الله عليه وسلم أدرى بأفهام الناس ودرجات وعيهم، ومن ثم كان يخاطبهم بحسبها، وهذا موافق لما أخرجه البخاري موقوفا على " علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " [17] . ويتضح هذا مما يلي: [ ص: 121 ]

        عن ابن عمر رضي الله عنه قال ( قال رجل: يا رسول الله، حدثني بحديث واجعله موجزا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( صل صلاة مودع، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك، وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه ) [18] .

        فالرجل يطـلب من النـبي صلى الله عليه وسلم حديـثـا ولكـن مـوجزا، ويـراعي صلى الله عليه وسلم قدرة الرجل على الاستيعاب فلا يزده على ثلاث.

        وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فقال: علمني كلاما أقوله، قال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. فقال: هؤلاء لربي فمالي ؟ قال: قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني ) [19] .

        فانظر إلى الأعرابي، وهو المعروف بالطبع الحاد والفهم الساذج والانفعال السريع، يقول: هذا لربي، فمالي ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنفه، بل علمه دعاء وقدر فهمه، فلا يمكنه أن يعلمه ما لا يطيق أو ما يسبب له حنقا وغضبا على الإسلام. [ ص: 122 ]

        وإذ أتكلم عن هذه الأعرابي، أتذكر الأعرابي الآخر الذي تبول في المسجد، وأتذكر تلك المعاملة اللطيفة التي عامله بها صلى الله عليه وسلم .

        ( وهذا يزيد بن سلمة رضي الله عنه قال: (يا رسول الله، إني قد سمعت منك حديثا كثيرا أخاف أن ينسيني أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعا، فقال: اتق الله فيما تعلم ) [20] . فيزيد بن سلمة يريـد كلمة جامعة تغنـيـه عن تـذكر واستحـضار ما سبق، حتى إن نسيه كفته، ويجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غير مجبر على ما لا يعلم وما قد نسي، وذلك بقوله: (اتق الله فيما تعلم) ، وكم هو موجز هذا الكلام! وكم هو بليغ!

        ب- مخاطبة الناس حسب قدراتهم

        ( عن أم هانئ رضي الله عنها ، قالت: (أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله دلني على عمل فإني كبرت وضعفت: فقال: كبري الله مائة مرة، واحمدي الله مائة مرة، وسبحي الله مائة مرة، خير من مائة فرس ملجم مسرج في سبيل الله، وخير من مائة بدنة، وخير من مائه رقبة ) [21] . [ ص: 123 ]

        ولعل هذا الحديث غني عن كل تعليق، امرأة كبيرة وضعيفة، لم تعد تقوى على أعمال البر، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف لها ما يناسب كبرها وضعفها، وما هو خير لها من فرس ملجم في سبيل الله، وخير من مائة بدنة، وخير من مائة رقبة.

        ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله، أقبل وأنا صائم ؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: يا رسول الله، أقبل وأنا صائم؟ قال: نعم، فنظر بعضنا إلى بعض فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد علمت نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه ) [22] .، وقدرة الشيخ ليست هي قدرة الشاب.

        ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أو لا نجاهد ؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور ) [23] .، فالمرأة لم تحرم الجهاد ثوابا وأجرا، فالحج بالنسبة لها أفضل الجهاد.

        نعم، صدق الله سبحانه وتعالى حيث قال: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة:128) . [ ص: 124 ]

        ( وقال كعب رضي الله عنه : لما نزلت: ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) (الشعراء:224) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: ما ترى في الشعر ؟ قال: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ) [24] .

        فانظـر أخي كيف تعـددت صور الجهاد بتعدد قدرات المخاطب ومؤهلاته!

        ( وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، فقالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا ) [25] . [ ص: 125 ]

        فهؤلاء لا يملكون ما يتصدقون به، وأهل الدثور يعملون الأعمال نفسها ويفوقونهم بصدقاتهم ومن ثم يفوقونهم في الأجر، والنبي صلى الله عليه وسلم مراعاة لقدراتهم يذكرهم بأعمال بسيطة في قدرها عظيمة في ثوابها بمثابة ثواب الصدقة.

        جـ - مراعاة أحوال الناس في المنشط والمكره

        وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس ويعاملهم حسب أفهامهم وقدراتهم، كان أيضا يراعي أحوالهم في المنشط والمكره، في الشدة والرخـاء، فيقيـنا أن ما لا يصلح للإنسان في الرخـاء قد يصلح له عند الشدة، وقد رأينا أمثلة من هذا في بعض التشريعات القرآنية.

        من ذلك، منع النبي صلى الله عليه وسلم إقامة حد السرقة في الحرب حفاظا على موقع المسلمين وقوتهم.

        فقد أتي بسر بن أرطاة بسارق يقال له مصدر، قد سرق بختية، ( فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع الأيدي في السفر، ولولا ذلك لقطعته ) [26] . [ ص: 126 ]

        قال العزيزي في شرح الجامع الصغير: قوله: في السفر، أي سفر الغزو، مخافة أن يلحق المقطوع بالعدو، فإذا رجعوا قطع، وبه قال الأوزاعي [27] .

        واحتلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجل فأمر بالاغتسال، فاغتسل، وكان مصابا بجرح، فمات، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فقال: قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال! ) [28] .

        ( وعـن أبي هريرة رضي الله عنه قـال: (مـات ميـت في آل رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، فـقـام عمـر ينهـاهـن ويـطـردهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهن يا عمر، فإن العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب ) [29] .

        فالرسول صلى الله عليه وسلم قدر الحالة النفسية للنساء، والمصيبة التي حلت، فطلب من عمر رضي الله عنه أن يتركهن وشأنهن. [ ص: 127 ]

        كما يعملنا عليه الصلاة والسلام أن نقدر حالة المسلم في مرضه، عندما عاد مريضا ( فقال له: ما تشتهي؟ قال: اشتهي خبز بر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا فليطعمه ) [30] .

        د - اعتبار حاجات الناس والرأفة بهم

        جاء الإسلام رحمة للعـالمـين، يلبي حـاجات الناس ما دامت لا تخالف الشرع. ورأينا في ذلك أمثلة من القرآن الكريم، ونعرض هنا أمثلة من السنة الشريفة.

        كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يؤدوا زكاة الفطر قبل أن يخرجوا إلى المصلى، وقال: ( أغنوهم عن السؤال. ) [31] .

        انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيهاته يراعي حاجات الناس ومتطلباتهم، ولا يخرج عنها. وهنا قدر حاجة الضعفاء بأمر المسلمين تأدية صدقة الفطر أول يوم العيد، حتى يتحقق [ ص: 128 ] الإغناء فلا يطوفوا في الأزقة والأسواق لطلب المعاش [32] .

        ( وعن جابر بن عبد الله قال: أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النسـاء، فانطـلق الرجل وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا معاذ أفتان أنت [أو: أفاتن ثلاث مرار] فلولا صليت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ) [33] .

        وفي رواية أخرى ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء ) [34] .

        فالرسول صلى الله عليه وسلم طلب الرأفة بأصحاب الحالات الخاصة، بالصغير والكبير والضعيف والسقيم وذي الحاجة. إنها رحمة الإسلام [ ص: 129 ] وسعته. واقرأ معي هذا الحديث تتضح لك واحدة من أسمى سمات الإسلام:

        فعن أبي هريرة رضي الله عنه ( قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، فقال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فقال: هل تجد رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متـتابعين ؟ قـال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا، ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، قال: تصدق بهذا، قال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك ) [35] .

        هـذا الحـديث وأمثـالـه يفتـح لنا آفـاقـا واسـعة للدعوة إلى الله عز وجل برحمة ولين ورفق، وما أحوج هذه الدعوة إلى مثل هذه المواقف.

        ( وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 130 ] في سفر، فأراد المـؤذن أن يؤذن للـظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبرد، ثم أراد أن يـؤذن، فقال: أبرد، حتى رأيـنا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ) [36] وهذا اتقاء للحر الشديد الذي يضر بالجسم.

        ( وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب ) [37] .

        ونستفيد من هذا الحديث:

        - أن الواجب يؤدى في أي حال من الأحوال، وبالقدر الممكن والمستطاع،

        مصداقـا لقول الله عز وجل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:285) .

        - أن الواجب لا يجوز أن يهمل كلية إذا تعذر القيام به على الوجه المطلوب. [ ص: 131 ]

        هـ - التيسير ورفع الحرج

        من خصـائص التشريع الإسـلامي رفع الحرج،

        يقـول الله عز وجل : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحـج:78) ،

        ( وقال صلى الله عليه وسلم : (يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا ) [38] .

        ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) [39] .

        وتيسير النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أمرا خفيا أو خاصا مع قوم، وإنما كان عاما يشهد به الجميع، فهذا " الأزرق بن قيس ، قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل، فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: إن منزلي متراخ فلو صليت وتركت الفرس لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من تيسيره " [40] . [ ص: 132 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية