الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الأول: ضابط المقصد

        لم تحظ مقاصد الشريعة بتعريف دقيق جامع مانع وإنما هي إشارات عابرة فقط، وكلاما عاما غير محدد.

        فأما الشاطبي ، وهو المؤسس الحقيقي للمقاصد، لم يعط تعريفا واضحا لها، وإنما اكتفى بالقول: (إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا) [1] .

        وقال في موضع آخر (المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا) [2] .

        والتعريف الأول أوضح دلالة من التعريف الثاني، إذ جعل المقصد والغاية مصلحة العباد في الدنيا والآخرة. [ ص: 144 ]

        وأما ابن عاشور فقد عرف المقاصد بما يلي: (مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظاتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها) [3] .

        وقال في موضع آخر: (مقصد الشريعة الأعظم، نوط أحكامها المختلفة بأوصاف مختلفة تقتضي تلك الأحكام، وأن يتبع تغير الأحكام تغير الأوصاف) [4] .

        وهذا ما تبين له من خلال استقراء أقوال الشارع ( صلى الله عليه وسلم ) وتصرفاته، ومن الاعتبار بعموم الشريعة الإسلامية ودوامها.

        إلا أن هذين التعريفين بحاجة إلى تفصيل وتدقيق، فكان التعريف التالي أدق وأوضح: (المقصد العام من التشريع حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان ) [5] . [ ص: 145 ]

        وأما علال الفاسي رحمه الله فقال: (المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن إصلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع) [6] .

        وبعد أن أورد الدكتور أحمد الريسـوني تعريفات لكل من ابن عاشور وعلال الفاسي ، قال: (وبناء على هذه التعريفات والتوضيحات لمقاصد الشريعة لكل من ابن عاشور وعلال الفاسي، وبناء على مختلف الاستعمالات والبيانات الواردة عند العلماء الذين تحدثوا في موضوع المقاصد، يمكن القول: (إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد) [7] .

        وقد أجاد وأفاد الدكتور الريسوني في هذا التعريف الذي يذكر بما قاله الدكتور عبد المجيد النجار : (إن للشريعة الإسلامية مقصدا كليـا عاما هو تحقيق مصلحة الإنسان وخيره ) [8] . [ ص: 146 ]

        وقسم العلماء المقاصد إلى مراتب كما هو معلوم: ضرورية وحاجية وتحسينية.

        فالمقاصد الضرورية لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين [9] . وهذه الضروريات خمس: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهي الأصول المحققة للاستخلاف.

        وهذا الصنف قليل التعرض إليه في الشريعة؛ لأن البشر قد أخذوا حيطته لأنفسهم منذ القدم، فأصبح مركوزا في الطبائع، ولم تخـل جماعـة من البـشر ذات تمـدن من أخـذ الحيـطة لـه، وإنما تتفاضل الشريعة بكيفية وسائله [10] .

        وأما المقاصد الحاجية، فهي ما يحتاج إليه الناس من أجل التوسعة ورفع الحرج، وسير الأمور على أحسن وجه، (فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ [ ص: 147 ] الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة ) [11] .

        ولهذا الغرض شرعت الرخص، حيث أبيح الفطر للمسافر، والتيمم عند عدم وجود الماء، والاستصناع والسلم، ودرء الحدود بالشهبات...

        ويمثل هذا قوله : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) (المائدة:6) .

        وفي هذا القسم يمكن إدراج عدول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قطع يد السارق عام المجاعة بشبهة المجاعة.

        وأما المقاصد التحسينية فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات [12] ، وما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم [13] . ومنها ستر العورة، وآداب الطعام، وغير ذلك...

        إن ترتيب هذه المقاصد يعني أولوية إحداها على الأخرى. ومن ذلك كان الضروري مقدما على الحاجي، والحاجي مقدما على التحسيني، وبفهم الواقع تتبين لنا هذه المقاصد عند كل قضية، [ ص: 148 ] ومن ثم تقديمها على الأخرى وكيفية العمل عند التعارض. فإذا كانت مراعاة الحكم الحاجي تفضي إلى الإخلال بالحكم الضروري، فإنه لا يقدم عليه باعتبار أن الضروري أعلى مرتبة منه، لذلك وجبت بعض الواجبات على المكلفين رغم ما فيها من مشقة، فتحتمل حفظا للضروريات الخمس. وقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم حدا في الغـزو، (لأن تطبـيق الحكم الشرعي على الجاني يئول إلى كسر نفسه، فيقترف من التهاون في الجهاد والخيانـة فيـه ما يكون عائدا بالهلكة على الأمة بأسرها) [14] .

        وكذلك لا يراعى التحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بالضروري أو الحاجي، لذلك أبيح كشف العورة عند العلاج، وتناول المحرم والمسكر عند الاضطرار.

        في ضوء هذه المراتب كانت اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، يحددها فهمهم للواقع واستيعابهم له، وتنضبط بمقـاصد التشريع لا تخرج عنها. واليوم ما هذه الاجتهادات غير الموفقـة التي نسمع بها، والدعـوة القاصرة، إلا نتيجة لعدم فقه المقاصد ولجهل الواقع. [ ص: 149 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية