تـقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي جعل الاستطاعة مناط التكليف،
فقال تعالى: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286)
وقال: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن:16) .. فالمعاني الدالة على ذلك، المؤكدة له، تكاد تلمح في معظم آيات القرآن الكريم، إن لم نقل كلها، بطريقة أو بأخرى، عدا ما كان يفرض على الأمم السابقة من تكاليف يقع ضمن إطار العقوبات على المعاصي، من مثل التكليف بقتل النفس..... ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) (البقرة:54) ،
أو تحريم بعض أنواع الطيبات من المآكل والمشارب.
وفي نطاق الاستطاعة التي هي مناط التكليف، كما أسلفنا، نشأ وتولد الفقه الإسلامي، الذي يمكن وصفه بمجموعه بأنه فقه الاستطاعة أو فقه الممكن. فالشريعة الإسلامية في مقاصدها [ ص: 11 ] النهائية إنما جاءت لتهذيب الإنسان وليس لتعذيبه، فالضرورات تبيح المحظورات، والمشقة تجلب التيسير، وما جعل الله علينا في الدين من حرج،
قال تعالى: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (الحج:78) ..
وقال تعالى بعد ذكر مجموعة من الأحكام والتشريعات والعبادات: ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) (المائدة:6) ..
والقاعدة الشرعية المعروفة: إذا ضاق الأمر اتسع.. وإذا هبطت أقدار التدين وانحلت العزيمة وفقدت بعض الاستطاعة كانت الرخصة الحكم الموافق للحالة. فمن طبق الرخصة المتوافقة مع استطاعته فقد طبق الإسلام المفروض عليه في هذه الحالة وخرج من عهدة التكليف.
والصلاة والسلام على الرحمة المهداة الذي ابتعث في المؤمنين رسولا منهم، فجاء رسولا من أنفسهم، بلسانهم (واللغة أو اللسان هي وعاء المجتمع) ، وكان ابن مجتمعه، يعيش ظروفه ويتعامل مع واقعه وبيئته، ويجري عليه ما يجري على سائر البشر من الظروف والأحوال إلا ما اقتضته مهمة النبوة من العصمة، التي تعتبر من لوازم النبوة والتبليغ، حتى لا تنخرم المهمة أو تلبس بمواضعات [ ص: 12 ] البشر. وبذلك أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ووضع الإصر، وأزاح الأغلال، وأطلق القدرات، وبنى الإرادات، واسترد إنسانية الإنسان.
قال تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا ) (الجمعة:2) .
وقال: ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (آل عمران:164) ،
وقال: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) (إبراهيم:4) .
وقال تعالى: ( ... ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) (الأعراف:157) .
وبعد فهذا كتاب الأمة الخامس والسبعون: (فقه الواقع.. أصول وضوابط) للأستاذ أحمد بوعود ، في سلسة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والحصانة الثقافية، وإحياء المنهج السنني، كسبيل لإعادة قراءة الواقع بدقة وموضوعية، والتبصر بكيفيات تغييره، وتحديد مواطن [ ص: 13 ] الخلل وأسبابها، التي لحقت بالأمة المسلمة فأقعدتها عن ممارسة دورها في الشهادة على الناس وإلحاق الرحمة بهم، والتحقق بالرؤية الاستراتيجية التي تفقه الحاضر، وتستشرف الماضي، وتبصر المستقبل، وتدرك العواقب والتداعيات المترتبة على فعلها، فتفكر كثيرا: متى وكيف ولماذا تقدم؟ ومتى ولماذا تحجم؟ وتدرك أن القيم الإسلامية التي خوطبت فيها بالكتاب والسنة تشكل الوجهة والبوصلة الدالة على التوجه، وتشحذ العقل لإبداع المناهج والبرامج ووضع الأوعية الشرعية لتنزيل هذه القيم على حياة الناس، وتقويم واقعهم بها، والتخطيط لمستقبلهم على هديها، والاعتقاد بأن هذه البرامج والمناهج حتى ولو استنبطت من خلال قيم الكتاب والسنة، فلا تمتلك عصمة وقدسية وصوابية الكتاب والسنة، لأنها أفعال واجتهادات بشرية نسبية، يجري عليها الخطأ والصواب، لذلك فهي خاضعة دائما للنقد والتقويم والمراجعة والمناصحة والمشاورة والمثاقفة.
ذلك أن أية محاولة لاعتبارها الإسلام، أو الادعاء لها بالعصمة والصواب المطلق، الذي يتأبى على النقد والمراجعة، فإن ذلك يناقض طبيعتها الخاضعة للمراجعة والتعديل والتبديل والإضافة والإلغاء.. مع الإشارة إلى أن صـوابيـتها لعـصر وواقـع واستـطاعاته وإمكانـاته لا تعني بالضرورة صوابيتها لكل عصر بمتغيراته الزمانية والمكانية [ ص: 14 ] والإمكانية، وإلا كان التجمد والتكلس والتوقف ومحاصرة خلود قيم الكتاب والسنة، باسم حمايتها والحفاظ عليها، وإدانة لمدارس الاجتهاد التي بدأت مسيرتها ومشروعيتها في خير القرون، وإلغاء لطبيعة الحياة وسننها، وإيقافا للنمو والامتداد واستمرار العطاء وتقويم مسيرة الحياة بقيم الدين.
ذلك أن إخضاع الأعمال والاجتهادات البشرية للمراجعة والنقد والتقويم لا يعني بحال من الأحوال إفقادها لقيمتها وإسقاطها، وإنما يعني إضافة إلى قيمتها التاريخية ودورها في استشرافنا للماضي الثقافي إكسابها لعقولنا أقدارا من الرحابة والمرونة الذهنية، وبناء الملكة والأهلية التي تمكننا من النظر الدقيق في ضوء هذه الرؤى المتنوعة والخصبة، ذلك أن أقدار التدين ليست ثابتة، والاستطاعات ليست واحدة في كل العصور، وعند الأفراد وفي كل الأزمان، حتى عند الفرد الواحد، حيث تتغير نظرته إلى الأشياء وحكمه عليها، مع نمو مداركه واتساع تجاربه وزيادة علمه.. ولو ثبتت رؤيته ونظرته للأشياء وحكمه عليها، لدل ذلك بلا شك على توقف عقله، وتعطل نموه عند حدود تلك النظرة التي لم يتجاوزها، وانعزاله عن حركة المجتمع وتغيراته.
لذلك فالنقد والتقويم والمراجعة، سواء كانت ذاتية أو من [ ص: 15 ] (الآخر) الذي يؤمن بالقيم نفسها، هي روح الحياة المتدفقة ودليل امتدادها، وسبيل خلود القيم وقدرتها على الإجابة عن أسئلة الحياة في كل مراحلها. ذلك أن التدافع والحوار والتشاور والنقد والمناقشة والتقويم هي سبيل النمو والخصوبة والتسديد والرشد.
ولا بد من التأكيد أن عمليات النقد والتقويم والمراجعة لا تعني الرجوع والنقض والارتكاس والإلغاء، وليست هي سهاما طائشة غير محكومة يمكن أن تودي بأصحابها، ولا هي نوع من العبث والتشهي، وإنما هي مجهودات ذهنية واجتهادات شرعية محكومة بمناهج وضوابط وآداب.
ولعلنا نقول: إن الإيمان بقيم الكتاب والسنة، والاعتقاد بعصمتها، يشكل الحارس الأمين المؤطر لعمليات النقد والتقويم والمراجعة، وتبقى المعيار الأساس لكل اجتهاد.
وهنا قضية قد يكون من المناسب التوقف عندها ولو بقدر يسير، وهي أن الإسلام بتعامله مع الواقع والحال التي الناس عليها لا يفترض شكلا مسبقا للواقع الاجتماعي لتنزيل أحكامه عليه، وإنما الإنسان والمجتمع هو محل خطابه وحكمه في سائر ظروفه واستطاعته وأحواله.
لذلك نقول هنا: إن الذين يحولون دون تطبيق أحكام الإسلام [ ص: 16 ] على المجتمع بحجة ضرورة تأهيل المجتمع ليصبح محلا لتنزيل الشريعة، وأنه بواقعه الحالي لا يمكن تنزيل أحكام الإسلام عليه، يقعون في خطأين قاتلين من الناحية الشرعية والثقافية، الخطأ الأول: أن الإسلام لا يفترض شكلا اجتماعيا مسبقا ليكون محل خطابه وتنزيل أحكامه، بل يبدأ مع المجتمع والإنسان من حيث هو، فينزل عليه الأحكام المناسبة لاستطاعته.
وبهذا إذا توازت الاستطاعات مع الأحكام، وتنزلت على قدرها، يكون المجتمع بذلك قد طبق الإسلام المكلف به في هذه المرحلة من استطاعته، وهكذا يترقى ويتدرج في تنزيل أحكام الإسلام في ضوء التدرج والارتقاء في استطاعاته وإمكاناته؛ لأن الأحكام الخارجة عن استطاعته لا يقع عليه التكليف بها في هذه المرحلة.
ونحب أن ننوه هنا إلى أن الأحكام الإسلامية في مجتمع القدوة والسيرة العملية لم تغب لحظة واحدة من مسيرة الدعوة، وإنما كانت حاضرة منسجمة مع الإمكانات والاستطاعات المتوفرة في كل المراحل.. وقد مر المجتمع الأنموذج أوالمجتمع القدوة بعدة مراحل وعدة استطاعات، وكان لكل حالة أو مرحلة أحكامها، ففي مجتمع مكة مع بدء الوحي نزل الرسول صلى الله عليه وسلم الأحكام واتصل بالناس، وخلال ثلاثة عشرة سنة طبق الأحكام الشرعية الممكنة والمتناسبة مع واقع [ ص: 17 ] المجتمع المكي واستطاعة القائمين بأمر الدين.. فهو في مكة مطبق لأحكام الإسلام.. وهو في طريقه إلى المدينة مطبق لأحكام الإسلام.. والذين قضوا من الصحابة في مكة أو في الطريق إلى المدينة فقد طبقوا الإسلام المكلفين به في تلك المرحلة.. والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة طبق أحكام الإسلام.. وفي بدر وأحد وحنين .. ولكل مرحلة استطاعتها وحكمها وتكليفها.
لذلك فالانتظار لتحضير المجتمع لتطبيق الشريعة جهل بسبل التغيير الاجتماعي في المجتمع، وجهل بأحكام الشريعة، وفي آليات التنزيل، وأبعاد التكليف، وفقه الحالة والمرحلة.
والخطأ الثاني: هو أن الادعاء بضرورة التأهيل للمجتمع لتنزيل أحكام الشرع عليه لا يقل خطورة عن الخطأ الأول، إذ كيف يمكن أن تؤهل المجتمعات بقوانين ومبادئ وثقافات ودعوات ومناهج ليست إسلامية ابتداء لتكون محلا لتنزيل أحكام الإسلام؟ ذلك أن العكس هو الصحيح هنا، فالمجتمعات التي تؤهل بغير القيم والمبادئ الإسلامية لا يمكن بحال أن تقبل تنزيل أحكام الدين، لأنها تربت على قيم أخرى مناقضة.
لذلك نقول مرة أخرى: بأن الإسلام يبدأ مع الإنسان والمجتمع من حيث هو، وينزل عليه من الأحكام ما يتناسب مع استطاعته [ ص: 18 ] ومرحلته وحالته.. وهذه الأحكام تعتبر حدود تكليفه، أو غاية تكليـفه، فإذا تأهـل بهـا وتـرقـت استـطـاعتـه نـزل علـيه من الأحكام ما يتناسب معها وهكذا.. فالمجتمع يتأهل بالإسلام لتنزيل أحكام الإسلام.. وحسبنا أن نقول: إن المجتمعات الكافرة محل لخطاب الإسلام، فكيف بمجتمعات المسلمين؟
ومن الأمور التي نرى أنه من المهم التنبه لها والتنبيه إليها، أن التكليف الشرعي ابتداء، بعمومه ومراحله ومراتبه، إنما يقع ضمن الوسع والإمكان البشري، إذ لا يمكن عقلا ولا واقعا تكليف الإنسان بما لا يطيق.. فالتكليف لا يمكن أن يتجاوز حدود الطاقة البشرية بظروفها المتعددة، من أدنى مراتب الحكم الشرعي في الندب والاستحباب إلى أعلى مراتبه في الفرضية والوجوب.. وأن أحكام الشريعة متناسبة مع عزمات البشر.. وأن الحكم الشرعي لتهذيب الإنسان -كما أسلفنا- لا تعذيبه.. وأن الله الذي خلق الإنسان والظروف والزمان أعلم بقدرات الإنسان وحاجاته الأصلية، وبذلك لا يمكن أن يكلفه فوق طـاقته،
فالإسـلام دين الفطرة: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك:14)
فالتكليف والإرهاق وتجاوز الطاقة وعدم الاعتراف بالحاجات الأصلية يمكن أن يلحق بتشريعات البشر، أصحاب العلم المحدود، والعقل المحدود، والخضوع لظروف [ ص: 19 ] الزمان والمكان.. أما شرع الله فهو أحكامه لمن خلقه وعلمه.
لذلك يمكن القول: إن بين الإنسان المخلوق وأحكام الله الخالق تواعد والتقاء، وحتى لو بدا لنا صعوبة ومشقة بعض الأحكام أحيانا في النتائج القريبة فلا نلبث أن ندرك أبعاها وعطاءها في العواقب، والعبرة بالعواقب والمآلات دائما.
والذي يؤكد على أن الأحكام الشرعية أو التكليف ابتداء متوافق مع كينونة الإنسان واستطاعته، إلى جانب الأدلة النظرية والبراهين العقلية، أن هذه الأحكام تمثلت وتجسدت في أنموذج بشري، وتحققت من خلال عزمات البشر، وأن التجربة الأولى أو بناء الأنموذج (السيرة العملية) مرت بجميع مراحل الاستطاعة الاجتماعية، وتعاملت معها، ولم تكن الأحكام قوالب حديدية لصب المجتمعات فيها مهما كانت استطاعاتها.
ومن هنا ندرك لماذا ابتعث الله الرسول من البشر، وكيف أن ذلك شكـل إشكاليـة للكافـرين لعدم إدراكهم لأبعـاد هذا الابتعاث،
حيث قال الذين كفروا لرسلهم: ( إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ) (إبراهيم:10) . [ ص: 20 ]
إن ابتعاث الرسول من البشر، الذي يجري عليه ما يجري على سائر البشر من الضعف والقوة والصحة والمرض، إلا ما كان بسبب الاتصال بالوحي تسديدا وتأييدا، والعصمة من أي مناقضة للنبوة والبـلاغ أو خـرم لوسـائـلـها، هو الأمر الطبيـعي.. إذ كيـف يمكن أن يشكل قـدوة وأنموذجا للبشر ودليـلا على واقعية الأحكام الشرعية وإمكانية تجسدها من حياة البشر من لا يحس إحساس البشر ولا يطيق طاقاتهم ولا يتعرض لعوارضهم ؟ لذلك نقول: إن الإشكالية، كل الإشكالية، ألا يكون الرسول من البشر.
والغريب العجيب أن ينكر الكفار نبوة البشر من مثلهم، ويكفـرون بها خوفـا من تميـز الرسـل عليهم وممـارسة التشريع لهم، ولا يدركون أنهم واسطة الوحي، وأن التشريع من الله، وهم أدوات التوصيل والتبليغ والتطبيق على أنفسهم أولا، ولا ينكرون أو يتنكرون لتسلط البشر عليهم، والتشريع لهم، والخضوع إليهم بدل الخضوع لشرع الله، الذي يوقف التميز والتسلط ويحقق التحرر والمساواة.
ومن هنا يمكن القول: بأن تطبيق الإسلام لا يعني استكمال تنزيل أحكامه كلها في حالة الاستطاعة الكاملة فقط، وإنما يعني استكمال تنزيل ما يقع من أحكامه ضمن نطاق الاستطاعة، حيث بالاستطاعة يحدد التكليف، فحيثما استفرغت الاستطاعة حصل [ ص: 21 ] تطبيـق الإسـلام بالنسبة لهذه المسـألة، أما ما وراءها من الأحكام فلا يقع التكليف به، شريطة الإيمان بكل أحكام الدين وتكليفاته، والتصور الكامل لكل أحكامه والنية والعزيمة على بلوغها، والارتقاء بالاستطاعة لتصبح محلا لهذه التكاليف جميعا، أي النزوع إلى بلوغها واستكمالها.. وهذا لا يعني انتقاء الأحكام، ولا ممارسة التجزيء، وإنما يعني التصور الكامل لأبعاد التكليف ومن ثم تحديد الموقع القابل والممكن للتطبيق.
ذلك أن التكليف والتطبيق يتطور نموا وضعفا، تقدما وتراجعا، بحسب الاستطاعات وأقدار التـدين.. فأقدار التـدين والابتـلاءات لا تتجمد على حالة واحدة، ولا تتوقف عند حد. فإذا ارتقت أقدار التدين ونمت الاستطاعات نما التكليف واتسع حتى يصل مرحلة الكمال والاكتمال.. وإذا تراجع التدين وانحلت العزائم وقلت الاستطاعات، استدعى ذلك ما يقابله من التكليف وهكذا.
واستبانة هذه القضية على غاية من الأهمية في فقه واقع المجتمعات والتبصر بكيفيات التعامل معها في كل مرحلة، وأخذها بأحكام الدين وتقويم مسالكها بها، وامتلاك القدرة على التعامل معها من حيث هي، ذلك أن لكل حالة وإشكالية صورة شرعية للتعامل معها. [ ص: 22 ]
وهذا الذي أتينا على ذكره من فقه الاستطاعة، أو فقه الحالة، يقودنا مرة أخرى لطرح قضية كيفية الاقتداء بالسيرة والتأسي بمسالك خير القرون.
ذلك أن الدعوة الإسـلامية أو المسيرة الإسلامية من بدء الوحي أو بدء التكليف بالقراءة
( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق:1) ،
إلى الوصول إلى حالة الاكتمال والكمال في بناء أنموذج الاقتداء، مرت بحالات متعددة واستطاعات متنوعة، يمكن أن تشكل بمجموعها وتنوعها كل ما يمكن أن يعرض للإنسان والمجتمع من حالات ومن تفاوت في أقدار التدين، صعودا وهبوطا، قوة وضعفا، انتصارا وهزيمة.. أو بمعنى آخر، إن مسيرة السيرة العملية التي تعتبر تجسيدا لقيم الكتاب والسنة الخالدة، وتنزيلا لها على واقع الحياة أو على الواقع، وإنجازها من خلال عزمات البشر في أحوالهم المتعددة، قد غطت جميع المساحات الممكنة والصعبة والمستحيلة معا، الأمر الذي يمكن المسلم في كل زمان ومكان من امتلاك القدرة على التعامل مع القيم وتمثلها في واقعه، من خلال استطاعته. ذلك أن أقدار التدين لا يمكن أن تستقر على حال واحدة، كما معلوم، وبالتالي فإن التكاليف لا يمكن أن تكون واحدة، ذلك أن الاستطاعات متفاوتة، والفروق الفردية أمر مقرر شرعا وواقعا، ولم تثبت عمليا أقدار [ ص: 23 ] التـدين عنـد حـالـة الكمال والاكتمال:
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المـائـدة: 3) ،
وإنما تعرضـت ما بعد حـالة الاكتمال للهـبـوط والانتـكـاس.. وعليـه فلا يمكن في حالة السقوط والهبوط في الاستطاعة الاقتداء بمرحلة الكمال التي تمثل القمة في الاستطاعة.
من هنا نقول: بأن لكل حالة ولكل استطاعة تكليفها وحكمها، أو فقهها بشكل عام، سواء تناول هذا الفقه النص أو محل النص الذي هو المكلف، فالاقتداء أو اختيار موقع الاقتداء والتأسي لا بد أن يتناسب مع حال المكلف وواقعه واستطاعته وما يقابله من مسيرة السيرة العملية، فإذا استنفد المكـلف استطاعته واقتدى بما يوازيها أو يوافقها فقد أبرأ ذمته، وطبق الإسلام المقرر بالنسبة له في هذه الحالة وهذه الاستطاعة. وهذه لا يعني الانتقاص من أحكام الإسلام أو الانتقاص من التكليف وانكماش أبعاده، أو الانتقاء من الأحكام، وإنما يعني تحقيق التكليف عند تحقيق المناط.. ويبقى ما وراء ذلك ميدانا للارتقاء والنمو والصعود وتطوير الإمكانات ورؤية المقاصد والأهداف النهائية.
أما الفوضى في الاقتداء وغياب تقدير الاستطاعات، واختلاط الإمكانات بالأمنيات، فقد كلف العمل الإسلامي -ولا يزال- [ ص: 24 ] الأثمان الباهظة، نتيجة للحسابات الخاطئة والمجازفات غير المبصرة، ذلك أن الأحكام الشرعية أو التكاليف الشرعية هي أشبه ما تكون بأدوية لعلاج الأدواء الواقعة في حياة الفرد والمجتمع، وقاية وعلاجا، فهي كالصيدلية، لكن يبقى لكل داء دواؤه، وبالتالي فلا يمكن أن يعطى الدواء الواحد لكل داء أو لكل مريض، فذلك عبث بالأحكام وجهل بالواقع وعجز في تقدير الاستطاعة.
ولعل التدرج في أخذ الناس بأحكام التشريع، وأمثلته الكثيرة الواردة في ذلك والدالة عليه، وبيانها المتعدد في إجابات الرسول صلى الله عليه وسلم لكل سائل بحسب حاجته، وحتى في العصر الواحد والمجتمع الواحد، معروفة في مظانها من الكتاب والسنة للجميع، كما أن استمرار نزول القرآن على مدى ثلاثة وعشرين عاما، والفروق الواضحة في مواصفات الخطاب الذاتي والتكاليف الشرعية بين المكي والمدني، وبين النصر والهزيمة، وبين خطاب المعركة وخطاب الدعوة، وخطاب العقيدة وخطاب الحوار، وما إلى ذلك، إضافة إلى ما هو معلوم من مسيرة التشريع الإلهي وتطور النبوات وتعاليمها مع تطور المجتمعات واستطاعاتها، ونسخ الشرائع على مستوى النبوات والأحكام، وحتى على مستوى النبوة الواحدة، يعتبر مؤشرا واضحا على أن الحكم الشرعي والتكليف كان دائما منوطا بالاستطاعة، [ ص: 25 ] حتى لنكاد نلمح أن ترتيب القرآن على غير أزمنة النزول هو دليل من بعض الوجوه على أن أقدار التدين تتفاوت، وأن الاستطاعة هي التي تحدد التكليف وليس الزمن، وعاء الفعل البشري، ومسيرة السيرة هي التي تحكم كل الاستطاعات، لدرجة يمكن أن نقول معها: إن الاستطاعة اليوم قد تستدعي حكما من أواخر ما نزل في القرآن، وأن حالة من الاستطاعة أخرى قد تستدعي حكما من أوائل ما نزل.
ولعل ترتيب القرآن على غير أزمنة النزول ما يزال يستدعي الكثير من التأمل، فالإنسان هو الذي يسخر الزمن، والاستطاعة هي التي تحدد مدى التكليف وليس الزمن الذي إذا تحكم بالفعل البشري وحدد مداه يلغي ويهمل إرادة الإنسان واستطاعته، ويحمله على أحكام قد تتجاوز طاقاته.. فالقرآن والسنة بأحكامهما غطيتا المساحات التي يمكن أن تعرض للبشرية في جميع أحوالها.. والفقه الحقيقي هو بتحديد التوافق بين التكليف والاستطاعة، أي بين النص ومحل تنزيله.
ويمكن القول: إن أسباب النزول، التي تعني فيما تعني المناسبات أو الحالات الاجتماعية أو الإشكالات التي تعرض لها المجتمع محل التنزيل فجاء النص معالجا لها، تعطي مؤشرا واضحا أن النص أو التكليف جاء استجابة وحلا للحالة التي يعاني منها الناس، ليكون [ ص: 26 ] أنموذجا يجرد من الزمان والمكان ويولد في كل زمان ومكان، ذلك أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول علماء الأصول.
فأسباب النزول لا تخرج عن كونها وسائل معينة لكيفية تنزيل النص على الواقع ومعالجة مشكلاته.. صحيح أن هناك آيات كثيرة لم تتوفر لها أسباب نزول، إلا أن أسباب النزول تبقى علما مهما جدا في التدليل على تقدير الاستطاعات وما يناسبها من الأحكام.
ولا نذهب مع من يجازف ويتجاوز فيقول: إن الواقع هو الذي استدعى الحكم ووجهه وتحكم بالتنزيل، فجعل الواقع متحكما بالنص وحاكما عليه وليس النص هو الذي يعالج الواقع ويرتقي به ويعالج مشكلاته ولا يقـره على حاله، لأن كثـيرا مـن الآيـات -كما أشرنا- لا سبب نزول لها، وأن لبعض الآيات أكثر من سبب نزول، وأن القرآن نزل للزمن ولكل المجتمعات.. وأسباب النزول هي نماذج ووسائل لزمن وعصر معين بحسب الظاهر، إضافة إلى ذلك تمثل وسائل معينة على فهم النص وتنزيله على الواقع الذي يعاني منه الناس لكل زمان ومكان، ليشكل فقها ودليلا هاديا لكل الأحوال المشابهة والوقائع المماثلة.
ولا أدل على فقه الواقع، أو فقه التعامل مع الواقع، وأهمية إدراك [ ص: 27 ] أبعاد الاستطاعة قبل تحديد مدى التكليف وتنزيل الحكم على محله (الإنسان المكلف) ، ومدى توفر شروط الاستطاعة، من الفقه الواقعي للنبوة، محل التأسي والاقتداء، مما رواه ( أبو هريرة رضي الله عنه ، قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت! قال: مالك ؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتـقها ؟ قال: لا، (وفي رواية قال: ما أملك رقبة غيرها، وضرب على صفحة رقبته) قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال: لا، (وفي رواية: هل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟) فقال: هل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال: لا، (وفي رواية قال: والذي بعثك بالحق ما لنا طعام) ، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر، قال: أين السائل ؟ قال أنا، قال: خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهلي بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك ) ( البخاري ، كتاب الصيام) .
والذي يبدو لي أن أي كلام أو شرح بين يدي هذا الحديث قد يشكل حاجزا دون تلقي عطاء النبوة مباشرة، فلقد تنوع الحكم وتطور، متنقلا من التعرف على حال من الاستطاعة إلى حالة أخرى، [ ص: 28 ] حتى استقر بأن يأخذ الكفارة من فعل الخطأ نفسه، ويفيد منها يطعم أهله، وهو الذي كان في ظاهر الأمر محل إخراج الكفارة. هذا هو فقه النبوة.. فأين علماء المسلمين ودعاتهم وفقهاؤهم من هذا الفقه الرائع للتعامل مع الواقع؟
وحسبنا أن نقول: إنه فقه النبوة، أو إنها النبوة التي يقتضي التأسي فيها ديمومة النظر والمراجعة حتى لا نجانب الصواب.. فكم كانت بعض الفتاوى فاقدة لمحالها؟ وكم أورثت بعض الفتاوى العنت والحرج وتعذيب الناس بدل تهذيبهم، لعدم إدراك أحوالهم واستطاعتهم؟ وبدل أن تثير الاقتداء والإقبال على هذا الدين كانت حاجزا نفسيا يحول دون التدين ويؤدي إلى عكس حكمة تشريعه. وقد يكون ذلك عن حسن نية ورغبة في الخير، ولكن المشكلة، كل المشكلة، في غياب الفقه عن إدراك المحل والشروط المطلوب توافرها في محل الحكم ليحصل التكليف وينزل الحكم.
ومن القضايا الجديرة بلفت النظر والتنبه لها، أن الاعتراف بالواقع لا يعني إقراره على ما هو عليه من الخطأ والتخلف والظلم والجهل والاستبداد، أو الخضوع له، والتنازل عن قيم الكتاب والسنة، والافتتان عن بعض ما أنزل الله، أو العدول عن تقويمه بقيم الكتاب والسنة، وتحريف كيفية التعامل معها من خلال واقع الناس [ ص: 29 ] والخضوع له وإقراره باسم الواقعية، وإنما يعني أن البدء في أية عملية للتنمية والنهوض والارتقاء لا بد أن تأخذ في اعتبارها هذا الواقع وأن لا تتجاهله، لأن تجاهل الواقع والقفز من فوقه وعدم أخذه بعين الاعتبار هو استنبات للبذور في الهواء بدل زرعها في الأرض.. أما التنازل عن القيم، وتجميد الفاعلية، وإقرار الظلم، والعدول عن الحق، والتوقف والاستنقاع الحضاري باسم الواقعية، فهو فقدان للإرادة، وانتحار جماعي، وانحدار بشري، وقضاء على أي أمل في الإصلاح.
إن فقه الواقع والتعرف إلى مشكلاته هو سبيل للارتقاء به، وتنزيل الأحكام عليه، والأخذ بيده شيئا فشيئا لتقويمه بشرع الله.
وسبق أن قلنا: بأن الإسلام الذي غطى بأحكامه مساحات الحياة كلها، يبدأ مع الإنسان من حيث هو، يرتقي به حتى يبلغ الكمال في المحصلة النهائية للدعوة والتربية.. وهنا شبهة قد يكون من المفيد طرحها وهي: القول بأن هذا الواقع وما فيه من مشكلات لم يأت ثمرة لتطبيق أحكام الله وشرعه، وإنما تشكل بسبب عدوله عن شرع الله إلى شرائع أخرى، لذلك فالإسلام ليس مسئولا عما في الواقع من إشكاليات، وإنما المسئول عنها القيم التي أورثتها.
وهذه المسئولية صحيحة من وجه، ومحل نظر من أوجه .. هي [ ص: 30 ] صحيحة من حيث إن هذه المشكلات دليل على فساد القيم التي سببتها وسبيل إدانتها، وإنه لا يحاسب عليها الإسلام لأنها ثمرة لتطبيق غير نظامه.. ومحل نظر من جهة أن هذا المجتمع بمشكلاته وعلله هو محل دعوة الإسلام، وحلول الإسلام، وتنزيل أحكام الإسلام، لاستنقاذه مما هو فيه.. فالإسلام مسئول عن إنقاذ المجتمع، ومعالجة أمراضه، والتحول به إلى الخير، والنهوض به إلى الصلاح، ولو كان فساد المجتمع ومشكلاته المتحكمة بإنسانه متأتية من عقائد وشرائع أخرى، فإدانة المجتمع لا تقدم حلا منقذا، والسقوط في وحل المجتمع باسم الواقعية لا يغير حالا. وإنما السبيل هو فقه هذا المجتمع، والتبصر بكيـفية أخـذه بأحكـام الله، ودراسـة استطـاعتـه، وتنـزيل ما يناسبه في هذه المرحلة، ليشكل ذلك لبنة للارتقاء عليها إلى لبنة أخرى ليقوم البناء، فالنبوة الخاتمة كلها تمثل لبنة في بناء النبوة التاريخي ( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) (أخرجه البخاري ) .
ولعل من الأهمية بمكان تحديد مصطلح الواقع والواقعية، والذي نريد أن نوضحه أن الواقع -فيما نرى- هو الحال الذي عليه الناس، [ ص: 31 ] بكل ما فيه من خير وشر وسلبيات وإيجابيات.. فهذا الواقع هو محل الدعوة، وموضوع الرسالة، وإصلاحه وتقويمه بشرع الله هو المقصد والهدف من النبوة ومن ورثة النبوة.
ونرى أن الواقعية لا بد أن يتحدد مفهومها بحسب استعمالها، وإلا ذهب في فهمها الناس كل مذهب، فعندما نقول: إن دعوة الإسلام أو رساله الإسلام واقعية، معنى ذلك أنها قابلة للتطبيق والتنزيل والتجسيد في واقع الناس، وليست مثالية خيالية طوباوية بعيدة عن إمكانية التطبيق، وأن محلها عزمات البشر، ذلك أن النبوة تحققت من خلال عزمات البشر، فهي فكر وفعل، نظرية مقترنة بالتطبيق، كما أن كلمة واقعية تعني البدء والانطلاق من الواقع وأخذه بعين الاعتبار في عملية الإصلاح، وعدم تجاهله والقفز من فوقه.
لكن يبقى السؤال الكبير المطروح: هذا الذي أسميناه (واقع) ، كيف نفقهه وندرك مشكلاته، ونسبر أغواره، ونعرف السبب الذي أنشأه، ونضع فقهنا وخططنا لتنزيل الأحكام عليه، والنهوض به من خلال هذا الفهم؟ ذلك أن فقه الواقع يبقى عنوانا كبيرا طويلا عريضا وشعارا يقع في إطار الأمنيات التي ما نزال نتمناها دون أن تأخذ طريقها إلى حسن توظيف الإمكانات والتحقق بالآليات والأدوات التي تمكن من فقه الواقع، أو فقه المجتمع، الذي [ ص: 32 ] هو محل الدعوة أوالرسالة أو محل النبوة.
فتحديد المشكلات، ومعرفة أسبابها، ومحاولة تصنيفها، وجدولة أولوياتها بحسب الإمكانات المتوفرة، ومن خلال مراعاة الظروف المحيطة، والاعتبار بالماضي، وتحديد مواقع الاقتداء من مسيرة السيرة العملية، بمعنى وضع الحاضر في الموقع المناسب أو المشابه من مسيرة السيرة العملية، أو من مسيرة الماضي بشكل أعم وتجربة النبوة التاريخية ومجتمعات الأنبياء، وفقه الأحكام الشرعية، وما يقتضيه تنزيلها على الواقع من توفر التأكد من أهلية محل التنزيل وتوفر شروطه... هو السبيل السليم للتعامل مع المجتمع، أو مع الواقع، وتقويمه بشرع الله وقيم الدين.
إن فهم الواقع والتعرف عليه بدقة، أو بعبارة أدق: فقه هذا الواقع الذي هو محل الأحكام وموضوعها، لا يتأتى من الرؤى الحسيرة، ولا المجازفات القاصرة، والانفعالات التي يحكمها رد الفعل، أو محاولات اختزال الماضي في موقف، أو الحكم على الواقع من خلال لحظة تاريخية، أو نتيجة قريبة، أو النظر إليه من خلال نقطة سوداء، أو حالة طفو زبد، أو شيوع غثاء، بعيدا عن استكناه الحقائق الاجتماعية، وتجاوز الصورة إلى الحقيقة، واكتشاف القانون الاجتماعي أو قانون الحركة الاجتماعية أو ما يمكن أن نطلق عليه [ ص: 33 ] (المنهج السنني) ، الذي يمكن من تفسير الظواهر على وجهها الصحيح، ويحدد مواقع القصور وأسباب التقصير، ويبصر العواقب والمآلات، ولا تخدشه النتائج القريبة والسريعة، وتأسره الانفعالات.
لقد أصبح فقه الواقع، أو فقه المجتمع، علم له أدواته ووسائل قياسه، بل نستطيع أن نقول: إنه أصبح خلاصة لمجموعة علوم إنسانية واجتماعية وتاريخية، ولم تعد تنفع معه النظرة العابرة، أو الملاحظة الآنية، أو الأمنية المخلصة.
وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد بأن علوم فقه الواقع تتقدم بسرعة، وتتأصل بشكل مذهل حقيقة، وتتشعب إلى شعب تخصصية دقيقة، في محاولة لتغطية جميع مساحات الحياة.. ففي علم الاجتماع والمجتمع بات هناك علوم اجتماع متنوعة بحسب موضوعاتها في الميادين السياسية والاقتصادية.. وعلوم الإنسان بلغـت شأوا، وبـدأت تضـع يـدها على حقائق لا يمكـن تجـاهـلها ولا تجاوزها.. وعلم النفس يتقدم ليدخل المواقع كلها، ويحتل مكانه، ويدلي بشهادته على كل حالة، ولعلنا نقول: إنه تجاوز إمكانية قراءة الحاضر إلى محاولة صناعة المستقبل، وتحضير الناس له بزرع اهتماماتهم وتشكيل أهدافهم. [ ص: 34 ]
حتى أنه يمكن القول: بأن وسائل وأدوات سبر حقيقة المجتمع، وكشف خفاياه، ومعرفة واقعه، وتحديد وجهاته، أصبحت علوما. فعلم الإحصاء وحصر الإمكانات والاستطاعات والمسح والبحث الاجتماعي بوسائل منهجية للتقويم والقياس لم يعد أرقاما جامدة، وإنما يعبر عن مؤشرات ويحمل دلالات لا يمكن تجاهلها عند أي دراسة أو تخطيط أو تجديد أو تنمية للموارد البشرية والمادية.. فلم يعد علم الإحصاء أداة ووسيلة، وإنما أصبح مقوما لا يمكن تجاوزه.
حتى إن استطلاع الرأي والتعرف على التحولات الاجتماعية وأسبابها، أصبح علما وفنا، لا يقتصر على قراءة الحاضر وإنما يتجاوز إلى التأثير فيه والتوجيه له.
وليست الاستبيانات وفنية وضعها وما يطرح فيها من أسئلة، وما يتوصل إليه من نتائج، بأقل شأنا في فقه الواقع وامتلاك مفاتحه، والدخول إليه من أبوابه، بعيدا عن المجازفات والخبط الأعشى.
ويبقى التاريخ بحق، وتاريخ النبوة بشكل أخص، هو أبو العلوم الاجتماعية جميعها، لذلك نجد هذا الرصيد التاريخي من قصص الأنبياء مع أقوامهم في الكتاب والسنة، ليدخل المسلمون أصحاب الرسالة الخاتمة الحياة من مساراتها الصحيحة، ويدركوا سنن [ ص: 35 ] التسخير، ويتحققوا بالعبرة.. فالتاريخ هو مختبر الفعل الإنساني ودليل قانون الحركة الاجتماعية، لذلك كان التوجه إليه والاطلاع عليه من الفروض الاجتماعية أو الحضارية.
إن علوم فقه الواقع اليوم أشبه بالحواس والنوافذ العقلية للحركة الإنسانية، والأمة التي تفتقدها في عالم اليوم أمة تعيش فيما يشبه مدارس الصم والبكم.
صحيح أن عطاء النبوة لو استوعب بشكل صحيح يبصر المسلم بالكينونة البشرية، ويزوده بالقوانين الاجتماعية، ويمكنه من التحقق بالقدر الأساس من سنن السقوط والنهوض، ويمنحه شواهد تاريخية من قصص النبوة، لكن النبوة نفسها صاحبة هذا العطاء الذي يشكل الأرضية أو الخلفية التي لا بد منها، هي التي تطلب إلى المسلم السير في الأرض، وتحصيل اليقين لهذه السنن والقوانين الاجتماعية، حتى يؤمن بها إيمانا يستيقنه العقل ويطمئن إليه القلب، ليس كإيمان العوام، وإنما ليستخدمها في رؤيته للواقع وتخطيطه للمستقبل.
من هنا نقول: إن النفرة للتخصص في شعب المعرفة، وإحياء الفروض الكفائية، والنزول إلى الميدان والانخراط بالمجتمع هو من فقه الدين
قال تعالى: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا [ ص: 36 ] رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) ..
فلو كان الفقه حفظ نص، بعيدا عن فقه الواقع، لما كان هناك حاجة للنفرة والتخصص وفقه الميدان، وخوض المعارك، ومواجهة الظلم، وحوار الآخرين، ولما كان هناك حاجة للسير في الأرض، ولما كان هناك معنى لقصص الأنبياء، ولاكتفى المسلمون بتلقي النصوص من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فقط بعيدا عن أي تكليف أو استنفار.
لذلك نقول: إن الانخراط في المجتمع، والاندماج فيه، والتعرف على مكوناته ومؤثراته، ودراسة الظواهر الاجتماعية، ومعرفة أسبابها، والمساهمة في دوائر الخير، ومحاولة التوسع فيها، على هدى وبصيرة، وعدم تشكيل أجسام بعيدة عن المجتمع، منفصلة عنه، وإقامة هياكل وكيانات وخيام خارج المجتمع والحياة، أو السير خلف المجتمع ورصد تصرفاته والحكم عليها، بدل الدخول في المجتمع وإغرائه بفعل الخير، هو سبيل الخروج ومعاودة إخراج الأمة من جديد.
والكتاب الذي نقدمه، يمكن أن يعتبر محاولة جادة لاستقراء معظم وجهات النظر والمساهمات الفكرية المتوفرة حول هذا الموضوع الدقيق، والتدليل على أهميته وضرورته للعقل المسلم بشكل عام، والمتفقه المسلم بشكل أخص، لدرجة قد يكون أصبح من المستحيل معها تجاهله أو تجاوزه.. ذلك أن الفقه الاجتماعي الذي لا يتحصل [ ص: 37 ] إلا بتوافر أدواته البحثية، ما يزال غائبا عن العقل المسلم بالأقدار المطلوبة، وقد بلغ عند غيرنا بعدا ليس من السهل تداركه.
والباحث -جزاه الله خيرا- حاول جهده مسح الجهود التي بذلت في هذا المجال، كما حاول تأسيسها وتأصيلها بشكل منهجي، لكن الموضوع بطبيعته لا بد أن يبقى مطروحا لمزيد من المثاقفة والتفقه والمراجعة والتقويم.
ذلك أن فقه المجتمع والواقع يوازي فقه النص، وبدون فقه المحل ومعرفة الاستطاعات بشكل علمي وموضوعي فسوف تستمر المجازفات وهدر الطاقات، والعبث بالأحكام الشرعية، والمساهمة السلبية بالإساءة إليها، ولو عن حسن نية، فلا يمكن أن يسمى فقيها حامل النصوص؛ لأن فقه أبعاد التكليف قسيم فقه النص ومكمل له، فلا فقه لنص بلا فقه لمحله.. فالاجتهاد كل الاجتهاد اليوم لا بد أن ينصرف، فيما نرى، إلى محل تنزيل النص ومورده، ذلك أن النصوص أصبحت محفوظة وميسور الوصول إليها.
ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 38 ]